الدكتور فاضل حسن شريف
تكملة للحلقتين السابقتين قال عز من قائل عن البطن ومشتقاتها "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ ۚ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ ۖ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ" ﴿آل عمران 118﴾ بِطَانَةً اسم، بِطانة: خواصَّ يستبطنون أمركم، يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه، لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين، تُطْلعونهم على أسراركم، فهؤلاء لا يَفْتُرون عن إفساد حالكم، وهم يفرحون بما يصيبكم من ضرر ومكروه، وقد ظهرت شدة البغض في كلامهم، وما تخفي صدورهم من العداوة لكم أكبر وأعظم، و "وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ" ﴿الأنعام 120﴾ ظاهر الإثم وباطنه: علانيته وسره والإثم قيل الزنا، وقيل كل معصية، واتركوا أيها الناس جميع المعاصي، ما كان منها علانية وما كان سرًّا، إن الذين يفعلون المعاصي سيعاقبهم ربهم؛ بسبب ما كانوا يعملونه من السيئات، و "أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً ۗ وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ" ﴿لقمان 20﴾ وَبَاطِنَهُ: وَ حرف عطف، بَاطِنَ اسم، الهاء ضمير، ألم تروا أيها الناس أن الله ذلَّل لكم ما في السموات من الشمس والقمر والسحاب وغير ذلك، وما في الأرض من الدوابِّ والشجر والماء، وغير ذلك مما لا يحصى، وعمَّكم بنعمه الظاهرة على الأبدان والجوارح، والباطنة في العقول والقلوب، وما ادَّخره لكم مما لا تعلمونه؟ و "مُتَّكِئِينَ عَلَىٰ فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ ۚ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ" ﴿الرحمن 54﴾ بَطَائِنُهَا: بَطَائِنُ اسم، هَا ضمير، بطائنها: ظواهرها بلسان الأقباط، و عربية من البطن الذي يقابل الظهر، و يعبر به عن داخل الشيء و المخفي منه، وللذين خافوا مقام ربهم جنتان يتنعمون فيهما، متكئين على فرش مبطَّنة من غليظ الديباج، وثمر الجنتين قريب إليهم، و "هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ ۖ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ" ﴿الحديد 3﴾ وَالْبَاطِنُ: وَ حرف عطف، الْ اداة تعريف، بَاطِنُ اسم، وَالظَّاهِرُ وَالبَاطِنُ: الظاهر الذي ليس فوقه شيء والباطن الذي ليس دونه شيء، والباطن: عن إدراك الحواس "وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ "، هو الأول الذي ليس قبله شيء، والآخر الذي ليس بعده شيء، والظاهر الذي ليس فوقه شيء، والباطن الذي ليس دونه شيء، ولا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، وهو بكل شيء عليم، و "يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ" ﴿الحديد 13﴾ يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا، وهم على الصراط: انتظرونا نستضئْ من نوركم، فتقول لهم الملائكة: ارجعوا وراءكم فاطلبوا نورًا سخرية منهم، فَفُصِل بينهم بسور له باب، باطنه مما يلي المؤمنين فيه الرحمة، وظاهره مما يلي المنافقين من جهته العذاب.
جاء في الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل للشيخ ناصر مكارم الشيرازي: قوله تعالى "كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ * كَغَلْيِ الْحَمِيمِ" "المهل" (الدخان 45-46) على قول كثير من المفسّرين و أرباب اللغة الفلز المذاب، و على قول آخرين كالراغب في المفردات هو درديّ الزيت، و هو ما يترسب في الإناء، و هو شيء مرغوب فيه جدا، لكن يبدو أنّ المعنى الأوّل هو الأنسب. "و الحميم" هو الماء الحار المغلي، و تطلق أحيانا على الصديق الوثيق العلاقة و الصداقة، و المراد هنا هو المعنى الأول. على أي حال، فعند ما يدخل الزقوم بطون هؤلاء، فإنّه يولد حرارة عاليه لا تطاق، و يغلي كما يغلي الماء، و بدل أن يمنحهم هذا الغذاء القوة و الطاقة فإنّه يهبهم الشقاء و العذاب و الألم و المشقة. قوله تعالى "أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ أَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَ باطِنَةً وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَ لا هُدىً وَ لا كِتابٍ مُنِيرٍ" (لقمان 20) "أسبغ" من مادّة (سبغ) و هي في الأصل بمعنى الثوب أو الدرع العريض الكامل، ثمّ اطلق على النعم الكثيرة الوفيرة أيضا. هناك اختلاف بين المفسّرين في المراد من النعم الظاهرة و الباطنة في هذه الآية. فالبعض اعتقد أنّ النعمة الظاهرة هي الشيء الذي لا يمكن لأيّ أحد إنكاره كالخلق و الحياة و أنواع الأرزاق، و النعم الباطنة إشارة إلى الأمور التي لا يمكن إدراكها من دون دقّة و مطالعة ككثير من القوى الروحية و الغرائز المهمّة. و البعض عدّ الأعضاء الظاهرة هي النعم الظاهرة، و القلب هو النعمة الباطنة. و البعض الآخر اعتبر حسن الصورة و الوجه و القامة المستقيمة و سلامة الأعضاء النعمة الظاهرة، و معرفة اللّه هي النعمة الباطنة. و في حديث عن الرّسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله أنّ ابن عبّاس سأله عن النعم الظاهرة و الباطنة فقال صلّى اللّه عليه و آله: (يا بن عبّاس، أمّا ما ظهر فالإسلام و ما سوّى اللّه من خلقك، و ما أفاض عليك من الرزق، و أمّا ما بطن فستر مساوئ عملك و لم يفضحك به). و في حديث آخر عن الباقر عليه السّلام: (النعمة الظاهرة: النّبي صلّى اللّه عليه و آله و ما جاء به النّبي من معرفة اللّه، و أمّا النعمة الباطنة ولايتنا أهل البيت و عقد مودّتنا). إلّا أنّه لا توجد أيّة منافاة بين هذه التفاسير في الحقيقة، و كلّ منها يبيّن مصداقا بارزا للنعمة الظاهرة و النعمة الباطنة دون أن يحدّد معناها الواسع.
جاء في تفسير الميزان للعلامة السيد الطباطبائي: أن الآيات الناهية عن الزنا في كتاب الله تعالى هي قوله في سورة الإسراء "وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً" (الاسراء 32) وأي لسان أصرح من هذا اللسان، والآية مكية واقعة بين آيات المناهي، وكذا قوله "قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ" إلى أن قال "وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ" (الانعام 151)، كلمة الفواحش جمع محلى باللام واقعة في سياق النهي مفيدة لاستغراق النهي كل فاحشة وزنا، والآية مكية، وكذا قوله "قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ" (الاعراف 33)، والآية أيضا مكية، وكذا قوله "وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ * إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ" (المؤمنون 5-7)، والسورتان مكيتان، والآيات تحرم المتعة على قول هذا القائل كما تحرم سائر أقسام الزنا. فهذه جل الآيات الناهية عن الزنا المحرمة للفاحشة، وجميعها مكية صريحة في التحريم فأين ما ذكره من التدرج في التحريم والمنع؟ أو أنه يقول كما هو اللازم الصريح لقوله بدلالة آيات المؤمنون على الحرمة: إن الله سبحانه حرمها تحريما باتا، ثم النبي صلى الله عليه وآله تدرج في المنع عملا بالرخصة بعد الرخصة مداهنة لمصلحة الإيقاع موقع القبول، وقد شدد الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وآله في هذه الخلة بعينها. قوله تعالى "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ" (ال عمران 119) الآية سميت الوليجة بطانة وهي ما يلي البدن من الثوب وهي خلاف الظهارة لكونها تطلع على باطن الإنسان وما يضمره ويستسره.
https://telegram.me/buratha