الدكتور فاضل حسن شريف
جاء في موقع البلاغ عن بدر الكبرى منارة القوة والثبات للكاتب عمار كاظم: في رحاب هذا الشهر المبارك، شهر رمضان، وفي السابع عشر منه، نستعيد ذكرى معركة بدر، ذكرى الانتصار الذي حقّقه الله للمسلمين بقيادة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على جبروت قريش وطغيانها. قال سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: "وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ الله بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا الله لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ" (ال عمران 123). كانت معركة بدر من أجل أن يردّ رسول الله التحدي للمشركين، وأن يثبت القوّة، وأن يوحي للمسلمين بأنّ عليهم أن يضاعفوا قوّتهم، وأن لا ينهزموا أمام قوَّة الأعداء، وكان يريد منهم أن يقف أحدهم في مقابل العشرة: "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً" (الأنفال 65)، أيّ أنّ الله سبحانه وتعالى أراد من المسلمين أن يكون كلّ واحد قدر عشرة، وأن ينمّوا قوّتهم على هذا الأساس. ثم رأى أن المسلمين ليس عندهم هذه الهمّة الزائدة، فقال: "الْآَنَ خَفَّفَ الله عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ" (الأنفال 66)، أي أنّه يجب على المسلم إذا لم يقدر أن يقف مقابل عشرة، أن يقف مقابل اثنين على الأقلّ. ونفهم من هذا، أنّه لابدّ للمسلمين من أن يأخذوا بأسباب القوة، وأن لا يعيشوا حياة الاسترخاء والضعف أمام أعدائهم، وأن لا ينظروا إلى قوة أعدائهم وإلى ضعفهم؛ بل عليهم أن يعرفوا أنّ من الممكن أن يغلب الضّعفاء الأقوياء: "كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ الله" (البقرة 249).
عن جابر بن عبد الله، قال: اجتمعت قريش يومًا، فقالوا: انظروا أعلمكم بالسحر والكهانة والشعر، فليأت هذا الرجل الذي فرّق جماعتنا، وشتّت أمرنا، وعاب ديننا، فليكلمْه، ولينظر ماذا يردّ عليه فقالوا: ما نعلم أحد غير عتبة بن ربيعة. ققالوا: أنت يا أبا الوليد. فأتاه عتبة، فقال: يا محمَّد إِنا والله ما رأينا أشأم على قومه منك، فرقت جماعتنا وشتت أمرنا، وعبت ديننا، وفضحتنا في العرب حتى لقد طار فيهم أن في قريش ساحرًا، وأنّ في قريش كاهنًا، والله ما ننتظر إِلا مثل صيحة الحُبْلى، أن يقوم بعضنا إِلى بعض بالسيوف حتى نتفانى، أيها الرجل إِن كان إِنّما كان بك الحاجة، جمعنا لك حتى تكون أغنى قريش رجلًا، وأن كان إِنّما بك الباءة، فاختر أيّ نساء قريش شئت، فلْنزوّجْك عشرًا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فرغت؟. قال: نعم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "حم * تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ" (فصلت 1-2) إلى أن بلغ "فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ" (فصلت 13). فقال عتبة: حسبك حسبك، ما عندك غير هذا؟ قال: لا. فرجع إِلى قريش، فقالوا: ما وراءك؟ قال: ما تركت شيئًا أرى أنكم تكلمونه إِلا كلمته. قالوا: فهل أجابك؟ فقال: نعم. ثم قال: لا، والذي نصبها بَنيّة، ما فهمتُ شيئًا ممّا قال غير أنّه قد أنذركم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود. قالوا: ويلك، يكلمك الرجل بالعربية لا تدري ما قال؟ قال: لا والله، ما فهمت شيئًا مما قال غير ذكر الصاعقة. فكل هذه الروايات دلائل على أن القوم لديهم في أنفسهم اعتراف بالحقّ، وإصرار على الباطل، واعتصام بالدنيا، وركون إِلى الجاه والمنزلة، وانتهى الأمر بكبار هؤلاء إِلى قليب من قُلُب بدر الكبرى جيفة نتنة: "وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى" (طه 127).
جاء في موقع الدكتور عصام مسلم عن دروس من غزوة بدر الكبرى: تخلَّف أناسٌ في موقعة بدر ذَوو شأنٍ وبأس في القتال، لأنهم كانوا لا يتوقَّعون قتالاً. وقد وصف القرآنُ الكريم هذه الحالة النفسية لبعض الصحابة رضوان الله عنهم بقوله: "كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ * يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ * وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ" (الانفال 5-7). عندما هزم الله المشركين انطلقَت طائفة من المؤمنين في آثارهم يهزمون ويقتلون، وأكبَّت طائفةٌ على المعسكر يَجمعون الغنائم، وأحدَقَت طائفةٌ برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لا يصيب العدوُّ منه غِرَّة. فلما كان الليل واجتمع الناس قالت كلُّ طائفة: إنها أحقُّ بالغنائم، فنزل قوله تعالى: "يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ" (الانفال 1)، فقسمَها رسول الله صلى الله عليه وسلم على فَوَاقٍ بين المسلمين؛ أي: بالتساوي بينهم، بعد أن أخرَج الخمس منها كما جاء في آية الغنيمة. إن هذه المجادَلة بين الصحابة رضوان الله عليهم حول كيفيَّة قِسمة الغنائم، وقبل أن يَنزل بخصوصها شيءٌ من القرآن، ولم تكن هنالك سابقةٌ من رسول الله صلى الله عليه وسلم حول قسمتها أمرٌ عادي أيضًا، لأن المرء يتَساءل: يا هل ترى سيَكون التوزيع بالتساوي، أو تكون هنالك خصوصيات؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان قد أعلن قبل بدء المعركة أو أثناءها أنَّ مَن قتل قتيلاً فله سلَبُه، فهل سيخصُّ أيضًا مَن حاز شيئًا من الغنائم بشيءٍ زائد على غيره؟ قبل بيان الحكم الشرعي في ذلك تَرِد مثلُ هذه التساؤلات، وخاصة أن الناس قد فرَغوا من المعركة، ولا شيء آخر يَشغَلهم، فما إن اتَّضَح الحكمُ في الغنائم وكيفيَّة توزيعها حتى ثاب الناسُ إلى طاعة الله ورسولِه، واختفى كلُّ خلاف، وهذا شأن المسلم، "وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ" (الاحزاب 36). ولذا لم يَرِد عتابٌ للصحابة ولم تَرِد مؤاخذةٌ على مُجادلتهم حول الغنائم، بينما جاءت تعليقاتٌ لاذعة على مواقف بعض الصحابة قُبيل المعركة، وأبرزَت الآياتُ الخوارقَ الكثيرة أثناء سير المعركة؛ كل ذلك لحِكَمٍ تربوية، لكيلا تفتَخر النفوسُ بدَورها في النصر، وبذاك يَذهب الأجرُ والثواب، وليعلمَ المؤمنُ أن النصر بيدِ الله أولاً وآخرًا" "وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ" (الانفال 10). بينما نجد في التعليقات على أحداثِ غزوة أحُد كما في سورة آل عمران التسلية والتخفيف على النفوس الجريحة التي ذاقَت مرارة الهزيمة، ونُكبَت بالقتل، بعد أن كانت الغلَبةُ لها في بداية المعركة؛ كما في قوله تعالى: "وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ" (ال عمران 139-141). وهذا هو المنهج التربويُّ المتوازِن في القرآن الكريم، فلو جاء الثَّناء والمجد على صَنيع الصحابة في بدر لوَجد الغرورُ إلى بعض النفوس طريقَه، ولو جاء العتاب والتأنيب على مواقف الصحابة في أحد، لأخذ اليأسُ والأسى طريقه إلى النفوس.
https://telegram.me/buratha