الدكتور فاضل حسن شريف
تكملة للحلقتين السابقتين قال الله تبارك وتعالى عن الاستعاذة و الاعاذة ومشتقاتها "وَقَالَ مُوسَىٰ إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُم مِّن كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَّا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ" ﴿غافر 27﴾ عُذْتُ: عُذْ فعل، تُ ضمير، وقال موسى لفرعون وملئه: إني استجرت بربي وربكم أيها القوم من كل مستكبر عن توحيد الله وطاعته، لا يؤمن بيوم يحاسب الله فيه خلقه، و "إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ ۙ إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَّا هُم بِبَالِغِيهِ ۚ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ ۖ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ" ﴿غافر 56﴾ فَاسْتَعِذْ: فَ حرف استئنافية، اسْتَعِذْ فعل، إن الذين يدفعون الحق بالباطل، ويردُّون الحجج الصحيحة بالشُّبَه الفاسدة بلا برهان ولا حجة من الله، ليس في صدور هؤلاء إلا تكبر عن الحق، حسدًا منهم على الفضل الذي آتاه الله نبيه، وكرامة النبوة التي أكرمه بها، وهو أمر ليسوا بمدركيه ولا نائليه، فاعتصم بالله من شرهم، إنه هو السميع لأقوالهم، البصير بأفعالهم، وسيجازيهم عليها و "وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ ۖ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ" ﴿فصلت 36﴾ فَاسْتَعِذْ: فَ حرف استئنافية، اسْتَعِذْ فعل، فَاسْتَعِذْ بِاللهِ: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا قام إلى الصلاة يقول: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه، وإما يلقينَّ الشيطان في نفسك وسوسة من حديث النفس لحملك على مجازاة المسيء بالإساءة، فاستجر بالله واعتصم به، إن الله هو السميع لاستعاذتك به، العليم بأمور خلقه جميعها، و "وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَن تَرْجُمُونِ" ﴿الدخان 20﴾ إنّي عذت بربّي: استجرت به و التجَأت إليه، عُذْتُ بِرَبِّي: التجأت وتحصنت بربي، وألا تتكبروا على الله بتكذيب رسله، إني آتيكم ببرهان واضح على صدق رسالتي، إني استجرت بالله ربي وربكم أن تقتلوني رجمًا بالحجارة، وإن لم تصدقوني على ما جئتكم به فخلُّوا سبيلي، وكفُّوا عن أذاي، و "وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا" ﴿الجن 6﴾ يَعُوذُونَ: يَعُوذُ فعل، ونَ ضمير، وأنه كان رجال من الإنس يستجيرون برجال من الجن، فزاد رجالُ الجنِّ الإنسَ باستعاذتهم بهم خوفًا ورعبًا، وهذه الاستعاذة بغير الله، التي نعاها الله على أهل الجاهلية، من الشرك الأكبر، الذي لا يغفره الله إلا بالتوبة النصوح منه. وفي الآية تحذير شديد من اللجوء إلى السحرة والمشعوذين وأشباههم.
جاء في تفسير الميزان للسيد الطباطبائي: يوسف وامرأة العزيز: لم تزل عزيزة مصر تعد نفسها وتمنيها بوصال يوسف والظفر بما تبتغيه منه وتلاطفه في عشرته وتشفع ذلك بما لربات الحسن والزينة من الغنج والدلال لتصطاده بما عندها كما اصطاده بما عنده ، ولعل الذي كانت تشاهده من صبر يوسف وسكوته كان يغرها فيما ترومه ويغريها عليه. حتى إذا تاقت نفسها له وبلغت بها وأعيتها المذاهب خلت به في بيتها وقد غلقت الأبواب فلم يبق فيه إلا هي ويوسف. وهي لا تشك أن سيطيعها يوسف في أمرها ولا يمتنع عليها لما كانت ولا تزال تراه بالسمع والطاعة ، وتشاهد أن الأوضاع والأحوال الحاضرة تقضي بفوزها ونيلها ما تريده منه. فتى واله في حبه وفتاة تائقة في غرامها اجتمعا في بيت خالية أما هي فمشغوفة بحب يوسف تريد أن تصرفه عن نفسه إلى نفسها وتتوسل إلى ذلك بتغليق الأبواب ومراودته عن نفسه والاعتماد على ما لها من العزة والملك حيث تدعوه إلى نفسها بلفظ الأمر "هَيْتَ لَكَ" (يوسف 23) لتقهره على ما تريده منه. وأما هو فقد استغرق في حب ربه وأخلص وصفي ذلك نفسه فلم يترك لشيء في قلبه محلا غير حبيبه فهو في خلوة مع ربه وحضرة منه يشاهد فيه جماله وجلاله وقد طارت الأسباب الكونية على ما لها من ظاهر التأثير من نظره فهو على خلافها لا يتبجح بالأسباب ولا يركن إلى الأعضاد. ترى أنها تتوسل عليه بالأسباب بتغليق الأبواب والمراودة والأمر بقولها "هَيْتَ لَكَ" (يوسف 23) وأما هو فقد قابلها بقوله "مَعاذَ اللهِ" (يوسف 23) فلم يجبها بتهديد ولم يقل : إني أخاف العزيز أو لا أخونه أو إني من بيت النبوة والطهارة أو إن عفتي أو عصمتي تمنعني من الفحشاء ، ولم يقل إني أرجو ثواب الله أو أخاف عذابه إلى غير ذلك ، ولو كان قلبه متعلقا بشيء من الأسباب الظاهرة لذكره وبدأ به عند مفاجأة الشدة ونزول الاضطرار على ما هو مقتضى طبع الإنسان. بل استمسك بعروة التوحيد وأجاب بالعياذ بالله فحسب ولم يكن في قلبه أحد سوى ربه ولا تعدى بصره إياه إلى غيره فهذا هو التوحيد الخالص الذي هدته إليه المحبة الإلهية وأولهه في ربه فأنساه الأسباب كلها حتى أنساه نفسه فلم يقل إني أعوذ منك بالله أو ما يؤدي معناه ، وإنما قال "مَعاذَ اللهِ" (يوسف 23) وكم من الفرق بين قوله هذا وبين قول مريم للروح لما تمثل لها بشرا سويا :"إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا" (مريم 18). وأما قوله لها ثانيا "إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ" (يوسف 23) فإنه يوضح كلمة التوحيد الذي أفاده بقوله "مَعاذَ اللهِ" (يوسف 23) ويجليه، يقول : إن الذي أشاهده أن إكرامك مثواي عن قول العزيز لك "أَكْرِمِي مَثْواهُ" (يوسف 21) فعل من ربي وإحسان منه إلي فربي أحسن مثواي وإن انتسب إليك ذلك بوجه فهو الذي يجب علي أن أعوذ به وألوذ إليه ، وإنما أعوذ به لأن إجابتك فيما تسألين وارتكاب هذه المعصية ظلم ولا يفلح الظالمون فلا سبيل إلى ارتكابه. فقد أفاد عليهالسلام بقوله "إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ" (يوسف 23) أولا : أنه موحد لا يرى شرك الوثنية فليس ممن يتخذ أربابا من دون الله كما تقول به الوثنية يتخذون مع الله أربابا أخرى ينسبون إليهم تدبير العالم بل هو يقول بأن الله هو ربه لا رب سواه.
الاستعاذة من الشيطان الذي يصد عن ذكر الله "وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ" (المائدة 91). وينسي الشيطان الانسان ذكر ربه "فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ" (يوسف 42) و "اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ" (المجادلة 19). وتوجد اعمال تصد عن ذكر الله منها الخمر والميسر التي يحركها الشيطان في النفس "إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ" (المائدة 91). والتفكير المستمر في الاموال والاولاد تلهي عن ذكر الله "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ" (المنافقون 9). واكثر الناس بعدا عن ذكر الله اكثرهم بعدا عن الايمان بالاخرة "وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ" (الزمر 45) والاقرب الى الشيطان "وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَٰنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ" (الزخرف 36). فعليك بذكر الله لابعاده "إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا" (الاعراف 201).
https://telegram.me/buratha