الصفحة الإسلامية

اشارات قرآنية لكتاب اقتصادنا للسيد محمد باقر الصدر قدس سره (ح 2)


الدكتور فاضل حسن شريف

ويستمر الشهيد السيد محمد باقر الصدر قدس سره متحدثا عن الاقتصاد الاسلامي بقوله: ارتباط الاقتصاد الإسلامي بما يبثّه الإسلام في البيئة الإسلامية من عواطف وأحاسيس قائمة على أساس مفاهيمه الخاصة ، كعاطفة الأخوّة العامة كما قال تعالى "إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ" (الحجرات 10) التي تفجّر في قلب كلّ مسلم ينبوعاً من الحبّ للآخرين ، والمشاركة لهم في آلامهم وأفراحهم . ويثرى هذا الينبوع ويتدفّق تبعاً لدرجة الشعور العاطفي بالأخوّة ، وانصهار الكيان الروحي للإنسان بالعواطف الإسلامية والتربية المفروضة في المجتمع الإسلامي . وهذه العواطف والمشاعر تلعب دوراً خطيراً في تكييف الحياة الاقتصادية وتساند المذهب فيما يستهدفه من غايات.

وعن علاقة الدين بالمجتمع يقول السيد الصدر: فإنّ الدين هو الإطار الوحيد الذي يمكن للمسألة الاجتماعية أن تجد ضمنه حلّها الصحيح، ذلك أنّ الحلّ يتوقّف على التوفيق بين الدوافع الذاتية والمصالح الاجتماعية العامة، وهذا التوفيق هو الذي يستطيع أن يقدّمه الدين للإنسانية، لأنّ الدين هو الطاقة الروحية التي تستطيع أن تعوّض الإنسان عن لذائذه الموقوتة التي يتركها في حياته الأرضية أملاً في النعيم الدائم، وتستطيع أن تدفعه إلى التضحية بوجوده عن إيمان بأنّ هذا الوجود المحدود الذي يضحي به ليس إلاّ تمهيداً لوجود خالد وحياة دائمة ، وتستطيع أن تخلق في تفكيره نظرة جديدة تجاه مصالحه، ومفهوماً عن الربح والخسارة أرفع من مفاهيمهما التجارية المادّية. فالعناء طريق اللذّة، والخسارة لحساب المجتمع سبيل الربح، وحماية مصالح الآخرين تعني ضمناً حماية مصالح الفرد في حياة أسمى وأرفع. وهكذا ترتبط المصالح الاجتماعية العامة بالدوافع الذاتية، بوصفها مصالح للفرد في حسابه الديني. وفي القرآن الكريم نجد التأكيدات الرائعة على هذا المعنى منتشرة في كلّ مكان، وهي تستهدف جميعاً تكوين تلك النظرة الجديدة عند الفرد عن مصالحه و أرباحه ، فالقرآن يقول: "وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ" (غافر 40). "مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا" (فصلت 46) و (الجاثية 15). "يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ * فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ" (الزلزلة 6-8). "وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ" (ال عمران 169). "مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ اللّهِ وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ * وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ" (التوبة 120-121). هذه صور رائعة يقدّمها الدين في نصوص القرآن ليربط بين الدوافع الذاتية وسبل الخير في الحياة، ويطوّر من مصلحة الفرد تطويراً يجعله يؤمن بأنّ مصالحه الخاصة والمصالح الحقيقية العامة للإنسانيةـ التي يحددها الإسلام ـ مترابطتان. فالدين إذن هو صاحب الدور الأساسي في حلّ المشكلة الاجتماعية، عن طريق تجنيد الدافع الذاتي لحساب المصلحة العامة.

وعن علاقة الدين بالفطرة الانسانية يقول السيد محمد باقر الصدر قدس سره في كتابه الموسوم اقتصادنا: وبهذا نعرف أنّ الدين حاجة فطرية للإنسانية، لأنّ الفطرة ما دامت هي أساس الدوافع الذاتية التي نبعت منها المشكلة فلا بدّ أن تكون قد جهّزت بإمكانات لحلّ المشكلة أيضاً، لئلا يشذّ الإنسان عن سائر الكائنات التي زُوّدت فطرتها جميعاً بالإمكانات التي تسوق كلّ كائن إلى كماله الخاص. وليست تلك الإمكانات التي تملكها الفطرة الإنسانية لحلّ مشكلة إلاّ غريزة التديّن والاستعداد الطبيعي لربط الحياة بالدين وصوغها في إطاره العام. فللفطرة الإنسانية إذن جانبان: فهي من ناحية تملي على الإنسان دوافعه لذاتية. التي تنبع منها المشكلة الاجتماعية الكبرى في حياة الإنسان (مشكلة التناقض بين تلك الدوافع والمصالح الحقيقية العامة للمجتمع الإنساني). وهي من ناحية أخرى تزوّد الإنسان بإمكانية حلّ المشكلة عن طريق الميل الطبيعي إلى التديّن، وتحكيم الدين في الحياة بالشكل الذي يوفّق بين المصالح العامة والدوافع الذاتية . وبهذا أتمّت الفطرة وظيفتها في هداية الإنسان إلى كماله، فلو بقيت تثير المشكلة ولا تموّن الطبيعة الإنسانية بحلّها، لكان معنى هذا أنّ الكائن الإنساني يبقى قيد المشكلة عاجزاً عن حلّها، مسوقاً بحكم فطرته إلى شرورها ومضاعفاتها. وهذا ما قرره الإسلام بكل وضوح في قوله تعالى "فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ" (الروم 30) فإن هذه الآية الكريمة تقرّر: أولاً: أنّ الدين من شؤون الفطرة الإنسانية التي فطر الناس عليها جميعاً، ولا تبديل لخلق الله. وثانياً : أنّ هذا الدين الذي فطرت الإنسانية عليه ليس هو إلاّ الدين الحنيف، أي: دين التوحيد الخالص ؛ لأنّ دين التوحيد هو وحده الذي يمكن أن يؤدّي وظيفة الدين الكبرى، ويوجّه البشرية على مقياس عملي وتنظيم اجتماعي، تُحفظ فيه المصالح الاجتماعية. وأمّا أديان الشرك أو الأرباب المتفرّقة ـ على حدّ تعبير القرآنـ فهي في الحقيقة نتيجة للمشكلة فلا يمكن أن تكون علاجاً لها، لأنّها كما قال يوسف لصاحِبَي السجن "مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ" (يوسف 40) يعني بذلك أنّها وليدة الدوافع الذاتية، التي أملت على الناس أديان الشرك طبقاً لمصالحهم الشخصية المختلفة، لتصرف بذلك ميلهم الطبيعي إلى الدين الحنيف تصريفاً غير طبيعي ، وتحول بينهم وبين الاستجابة الصحيحة لميلهم الديني الأصيل. وثالثا ً: أنّ الدين الحنيف الذي فطرت الإنسانية عليه يتميّز بكونه ديناً قيّماً على الحياة "ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ" (الروم 30)، قادراً على التحكّم فيها وصياغتها في إطاره العام. وأمّا الدين الذي لا يتولّى إمامة الحياة وتوجيهها فهو لا يستطيع أن يستجيب استجابة كاملةً للحاجة الفطرية في الإنسان إلى الدين، ولا يمكنه أن يعالج المشكلة الأساسية في حياة الإنسان.

اشترك في قناة وكالة انباء براثا على التلجرام
https://telegram.me/buratha
اضف تعليقك
الاسم والنص والتحقق من الروبوت ضروري
آخر الاضافات
الاسعار الرسمية للعملات مقابل الدينار
دينار بحريني 0
يورو 0
الجنيه المصري 0
تومان ايراني 0
دينار اردني 0
دينار كويتي 0
ليرة لبنانية 0
ريال عماني 0
ريال قطري 0
ريال سعودي 0
ليرة سورية 0
دولار امريكي 0
ريال يمني 0
التعليقات
حيدر الاعرجي : دوله رئيس الوزراء المحترم معالي سيد وزير التعليم العالي المحترم يرجى التفضل بالموافقه على شمول الطلبه السادس ...
الموضوع :
مجلس الوزراء : موقع الكتروني لإستقبال الشكاوى وتقديم التعيينات
سهام جاسم حاتم : احسنتم..... الحسين بن علي بن أبي طالب عليهما السلام.جسد اعلى القيم الانسانية. لكل الطوائف ومختلف الاقوام سواء ...
الموضوع :
الحسين في قلب المسيح
Muna : بارك الله فيكم ...احسنتم النشر ...
الموضوع :
للامام علي (ع) اربع حروب في زمن خلافته
الحاج سلمان : هذه الفلتة الذي ذكرها الحاكم الثاني بعد ما قضى نبي الرحمة (ص) أعيدت لمصطفى إبن عبد اللطيف ...
الموضوع :
رسالة الى رئيس الوزراءالسابق ( الشعبوي) مصطفى الكاظمي
فاديه البعاج : اللهم صلي على محمد وال محمد يارب بحق موسى ابن جعفر ان تسهل لاولادي دراستهم ونجاح ابني ...
الموضوع :
صلاة الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) لقضاء الحوائج
محمد الخالدي : الحمد لله على سلامة جميع الركاب وطاقم الطائرة من طيارين ومضيفين ، والشكر والتقدير الى الطواقم الجوية ...
الموضوع :
وزير النقل يثني على سرعة التعاطي مع الهبوط الاضطراري لطائرة قطرية في مطار البصرة
Maher : وياريت هذا الجسر يكون طريق الزوار ايضا بأيام المناسبات الدينية لان ديسدون شارع المشاتل من البداية للنهاية ...
الموضوع :
أمانة بغداد: إنشاء أكبر مجسر ببغداد في منطقة الأعظمية
ساهر اليمني : الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ...
الموضوع :
السوداني : عاشوراء صارت جزءا من مفهومنا عن مواجهة الحق للباطل
هيثم العبادي : السلام عليكم احسنتم على هذه القصيدة هل تسمح بقرائتها ...
الموضوع :
قصيدة الغوث والامان = يا صاحب الزمان
فيسبوك