الدكتور فاضل حسن شريف
يقول الشهيد السيد محمد باقر الصدر قدس سره عن الاقتصاد الرأسمالي في كتابه اقتصادنا: ويذكر أنصار الرأسمالية في سياق الاستدلال على ذلك : أنّ الحرّية الاقتصادية تفتح مجال التنافس الحرّ بين مختلف مشاريع الإنتاج. وصاحب المشروع ـ في ظلّ هذا التنافس الحرّ الذي يسود الحياة الاقتصاديةـ يخاف دائماً من تفوّق مشروع آخر على مشروعه واكتساحه له، فيعمل بدافع من مصلحته الخاصة على تحسين مشروعه والاستزادة من كفاءاته، حتى يستطيع أن يخوض معركة السباق مع المشاريع الأخرى ، ويصمد في أُتون هذا النضال الأبدى، ومِن أهمّ الوسائل التي تتّخذ في هذا السبيل: إدخال تحسينات فنّية على المشروع . وهذا يعني: أنّ صاحب المشروع في المجتمع الرأسمالي الحرّ يظل دائماً يتلقّف كلّ فكرة أو تحسين جديد على الإنتاج ، أو أيّ شيء آخر من شأنه أن يمكّنه من الإنتاج بنفقة أقل. فإذا أدخل هذه التحسينات فإنّه لا يلبث أن يرى باقي المشروعات قد لحقت به، فيبدأ مرّة ثانية في البحث عن فكرة أخرى جديدة، حتى يحتفظ بأسبقيته على سائر المشروعات. وجزاء من يتخلّف في هذا السباق ولكن ظُلم الإنسان كما يعبّر القرآن الكريم بقوله تعالى "وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ" (ابراهيم 34) الذي حرم الإنسانية من بركات الحياة وخيراتها، وتدخّلٌ في مجال التوزيع على حساب هذا الحقّ أو ذاك سرى أيضاً إلى المبادلة حتى طوّرها وصيّرها أداة استغلال وتعقيد، لا أداة إشباع للحاجات وتيسير للحياة، وواسطة بين الإنتاج والادخار لا بين الإنتاج والاستهلاك . فنشأ عن الوضع الظالم للمبادلة من المآسي وألوان الاستغلال نظير ما نشأ عن الأوضاع الظالمة للتوزيع في مجتمعات الرقّ والإقطاع، أو في مجتمعات الرأسمالية والشيوعية.
وعن النقد في الاقتصاد يقول السيد الصدر: وعلى أي حال فقد عالج الإسلام هذه المشاكل النابعة من النقد، واستطاع أن يعيد إلى التداول وضعه الطبيعي ودوره الوسيط بين الإنتاج والاستهلاك. وتتلخص النقاط الرئيسية في الموقف الإسلامي من مشاكل التداول فيما يلي: أولاً: منع الإسلام من اكتناز النقد، وذلك عن طريق فرض ضريبة الزكاة على النقد المجمّد بصورة تتكرّر في كلّ عام، حتى تستوعب النقد المكتنز كلّه تقريباً إذا طال اكتنازه عدّة سنين. ولهذا يعتبر القرآن اكتناز الذهب والفضة جريمة يعاقب عليها بالنار، لأنّ الاكتناز يعني بطبيعة الحال التخلّف عن أداء الضريبة الواجبة شرعاً، لأنّ هذه الضريبة لدى أدائها لا تفسح مجالاً أمام النقد للتجمّع والاكتناز، فلا غروّ إذا هدّد القرآن الذين يكنزون الذهب والفضة وتوعّدهم بالنار قائلاً "وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَـذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ" (التوبة 34-35). وعن هذا الطريق ضمن الإسلام بقاء المال في مجالات الإنتاج والتبادل والاستهلاك ، وحال دون تسلّله إلى صناديق الاكتناز والادّخار. وثانياً: حرّم الإسلام الرِّبا تحريماً قاطعاً لا هوادة فيه كما قال الله تعالى "وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا" (البقرة 275)، وبذلك قضي على الفائدة ونتائجها الخطيرة في مجال التوزيع، وما تؤدّي إليه من إخلال بالتوازن الاقتصادي العام، وانتزع من النقد دوره بوصفه أداة تنمية للملك مستقلّة بذاتها، وردّه إلى دوره الطبيعي الذي يباشره بوصفه وكيلاً عاماً عن السلع، وأداة لقياس قيمتها وتسهيل تداولها. وثالثاً: أعطى لولي الأمر صلاحيات تجعل له الحقّ في الرقابة الكاملة على سير التداول والإشراف على الأسواق ، للحيلولة دون أيّ تصرّف يؤدّي إلى الضرر وزعزعة الحياة الاقتصادية، أو يمهّد للتحكّم الفردي غير المشروع في السوق وفي مجال التداول.
وعن تبرير الواقع يقول السيد محمد باقر الصدر قدس سره: إنّ عملية تبرير الواقع هي المحاولة التي يندفع فيها الممارس بقصد أو بدون قصدـ إلى تطوير النصوص وفهمها فهماً خاصاً يبرّر الواقع الفاسد الذي يعيشه المُمارس، ويعتبره ضرورة واقعة لا مناص عنها ، نظير ما قام به بعض المفكّرين المسلمين ممن استسلم للواقع الاجتماعي الذي يعيشه وحاول أن يُخضع النصّ للواقع بدلاً عن التفكير في تغيير الواقع على أساس النص، فتأوّل أدلّة حرمة الرِّبا والفائدة، وخرج من ذلك بنتيجة تواكب الواقع الفاسد، وهي: أنّ الإسلام يسمح بالفائدة إذا لم تكن أضعافاً مضاعفة، وإنّما ينهى عنها إذا بلغت مبلغاً فاحشاً، يتعدّى الحدود المعقولة كما في الآية الكريمة "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبا أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ" (ال عمران 130). والحدود المعقولة هي الحدود التي ألفها هذا المتأوّل من واقعه في حياته ومجتمعه . وقد منعه واقعه عن إدراك غرض هذه الآية الكريمة، التي لم تكن تستهدف السماح بالفائدة التي لا تضاعف القرض، وإنّما كانت تريد لفت نظر المرابين إلى النتائج الفظيعة التي قد يسفر عنها الرِّبا إذ يصبح المدين مثقلاً بأضعاف ما استقرضه، لتراكم فوائد الرِّبا، ونموّ رأس المال الرَّبوي نموّاً شاذّاً باستمرار، يواكبه تزايد بؤس المَدِين وانهياره في النهاية. ولو أراد هذا المتأوّل أن يعيش القرآن خالصاً وبعيداً عن إيحاءات الواقع المعاش وإغرائه، لقرأ قوله تعالى "وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ" (البقرة 279). ويفهم أنّ المسألة ليست مسألة حرب مع نوعٍ خاصٍّ من الرِّبا الجاهلي، الذي يضاعف الدَّين أضعافاً مضاعفة، وإنّما هي مسألة مذهب اقتصادي له نظرته الخاصة إلى رأس المال، التي تحدّد له مبررات نموّه، وتشجب كلّ زيادة له منفصلة عن تلك المبرّرات مهما كانت ضئيلة، كما يقرره إلزام الدائن بالاكتفاء برأس ماله، لا يَظلم ولا يُظلم .
https://telegram.me/buratha