الدكتور فاضل حسن شريف
جاء في کتاب اقتصادنا للشهيد السيد محمد باقر الصدر قدس سره عن وسائل الإسلام في تنمية الإنتاج: وفي خبرٍ عن الإمام جعفر عليه السلام أنّه قال لمعاذـ وهو أحد أصحابه ممّن كان قد اعتزل العمل: (يا معاذ، أضعفت عن التجارة أو زهدت فيها؟ فقال معاذ: ما ضعفت عنها ولا زهدت فيها عندي مال كثير، وهو في يدي وليس لأحدٍ عليّ شيء، ولا أراني آكله حتى أموت. فقال له الإمام: لا تتركها فإنّ تركها مَذْهَبَةٌ للعقل). وفي محاورة أخرى، ردّ الإمام على مَن طلب منه الدعاء له بالرزق في دِعة، فقال له: (لا أدعو لك، أطلب كما أمرك الله عزّ وجلّ). ويروى عن جماعة من الصحابة أنّهم اعتكفوا في بيوتهم وانصرفوا إلى العبادة. عند نزول قوله تعالى "وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ" (الطلاق 2-3)، وقالوا قد كفانا. فأرسل إليهم النبيّ قائلاً: (إنّ من فعل ذلك لم يستجب له، عليكم بالطلب). وكما قاوم الإسلام فكرة البطالة وحثّ على العمل، كذلك قاوم فكرة تعطيل بعض ثروات الطبيعة وتجميد بعض الأموال وسحبها عن مجال الانتفاع والاستثمار، ودفع إلى توظيف أكبر قدر ممكن مِن قِوى الطبيعة وثرواتها للإنتاج وخدمة الإنسان في مجالات الانتفاع والاستثمار، واعتبر الإسلام فكرة التعطيل أو إهمال بعض مصادر الطبيعة أو ثرواتها، لوناً من الجحود وكفراناً بالنعمة التي أنعم الله تعالى بها على عباده. قال الله تعالى "قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ" (الاعراف 32). وقال يشجب أسطورة تحريم بعض الثروات الحيوانية "مَا جَعَلَ اللّهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ وَلَـكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ" (المائدة 103). وقال وهو يهيب بالإنسان إلى استثمار مختلف المجالات "هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ" (الملك 15). وفضل الإسلام الإنفاق الإنتاجي، على الإنفاق الاستهلاكي، حرصاً منه على تنمية الإنتاج، وزيادة الثروة كما جاء في النصوص المنقولة عن النبي صلى الله عليه وآله والأئمّة، التي تنهي عن بيع العقار والدار، وتبديد ثمن ذلك في الاستهلاك.
وعن تحريم الاسلام بعض الاعمال يقول السيد الصدر قدس سره: حرّم الإسلام بعض الأعمال العقيمة من الناحية الإنتاجية، كالمقامرة والسحر والشعوذة، ولم يسمح بالاكتساب عن طريق أعمال من هذا القبيل، بأخذ أجرة على القيام بها "وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ" (البقرة 188). فإنّ هذه الأعمال تبديد للطاقات الصالحة المنتجة في الإنسان، والأجور الباطلة التي تدفع لأصحابها هدر لتلك الأموال التي كان بالإمكان تحويلها إلى عامل تنمية وإنتاج. ونظرة شاملة في التأريخ والواقع المعاش، يكشف لنا عن مدى التبذير الذي ينتج عن هذا النوع من الأعمال والاكتساب بها، وفداحة الخسارة التي يُمنى بها الإنتاج، وكلّ الأهداف الصالحة، بسبب تبديد تلك الطاقات والجهود والأموال و محاولة المنع من تركّز الثروة، وفقاً للنصّ القرآني الكريم "كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاء مِنكُمْ" (الحشر 7)، كما سنشرح ذلك في دراستنا لنظرية التوازن الاجتماعي في الاقتصاد الإسلامي. وهذا المنع عن التركّز وإن كان يرتبط بصورة مباشرة بالتوزيع، ولكنّه يرتبط أيضاً بشكل غير مباشر بالإنتاج، ويؤدّي إلى الإضرار به. لأنّ الثروة حين تتركّز في أيدٍ قليلة، يعمّ البؤس وتشتد الحاجة لدى الكثرة الكاثرة. ونتيجة لذلك سوف يعجز الجمهور عن استهلاك ما يشبع حاجاتهم من السلع لانخفاض قوّتهم الشرائية. فتتكدّس المنتجات دون تصريف، ويسيطر الكساد على الصناعة والتجارة ويتوقّف الإنتاج.
يقول اللشهيد السيد محمد باقر الصدر قدس سره عن علاقة الاسلام بالخبرة الحياتية: أوجب الاسلام على المسلمين الحصول على أكبر قدر ممكن وأعلى مستوى من الخبرة الحياتية العامة في كلّ الميادين، ليتاح للمجتمع الإسلامي امتلاك جميع الوسائل المعنوية والعلمية والمادّية التي تساعده على دوره القيادي للعالم، بما فيها وسائل الإنتاج وإمكاناته المتنوّعة. قال الله تعالى "وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ" (الانفال 60). والقوّة هنا جاءت في النصّ مطلقة دون تحديد، فهي تشمل كلّ ألوان القوّة التي تزيد من قدرة الأمّة القائدة على حمل رسالتها إلى كلّ شعوب العالم. وفي طليعة تلك القوى الوسائل المعنوية والمادّية لتنمية الثروة، ووضع الطبيعة في خدمة الإنسان.
وعن مفهوم الاسلام للثروة يقول السيد الصدر: وأخيراً ، فإنّ الإسلام يرى أنّ المشكلة الاقتصادية القائمة على أساس تصوّر واقعي للأمور ، لم تنشأ من ندرة موارد الإنتاج وبخل الطبيعة. صحيح أنّ موارد الإنتاج في الطبيعة محدودة ، وحاجات البشر كثيرة ومتنوّعة. وحقّاً أنّ مجتمعاً أسطورياً يتمتّع بموارد غير محدودة وافرة وفرة الهواء يظل سليماً من المشاكل الاقتصادية، ولا يوجد فيه فقير، لأنّ كل فرد فيه قادر على إشباع جميع رغباته في هذا الفردوس. ولكنّ هذا لا يعني أنّ المشكلة الاقتصادية التي تعانيها البشرية في الواقع نابعة من عدم وجود هذا الفردوس، بل ليست محاولة تفسيرها على هذا الأساس إلاّ لوناً من التهرّب عن مواجهة الوجه الواقعي للمشكلة القابل للحلّ بإبراز وجهها الأسطوري الذي لا يمكن حلّه بحال من الأحوال ، ليكون ذلك مبرّراً للاعتراف بحتمية المشكلة وحصر علاجها النسبي في تنمية الإنتاج بوصفها عملية مقصودة بذاتها ، وبالتالي يؤدّي ذلك إلى وضع النظام الاقتصادي في إطار المشكلة ، بدلاً عن اكتشاف النظام الذي يقضي عليها ، كما صنعت الرأسمالية حين أبرزت الوجه الأسطوري للمشكلّة، فخيّل لها أنّ الطبيعة ما دامت بخيلة أو عاجزة عن إشباع حاجات الإنسان جميعاً فمن الطبيعي أن تتصادم هذه الحاجات وتتعارض، وعندئذٍ لا بدّ من وضع نظام اقتصادي ينسق تلك الحاجات ويحدّد ما يجب إشباعه منها. إنّ الإسلام لا يقرّ ذلك كلّه، وينظر إلى المشكلة من ناحيتها الواقعية القابلة للحلّ ، كما نجد ذلك في قوله تعالى "اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ * وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَينَ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ * وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ" (ابراهيم 32-34). فإنّ هذا الآيات الكريمة بعد أن استعرضت مصادر الثروة التي أنعم الله تعالى بها على الإنسان، أكدت أنّها كافية لإشباع الإنسان وتحقيق سؤله "وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ" (ابراهيم 34)، فالمشكلة الواقعية لم تنشأ عن بَخَل الطبيعة ، أو عجزها عن تلبية حاجات الإنسان، وإنّما نشأت من الإنسان نفسه ، كما تقرّره الآية الأخيرة: "إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ" (ابراهيم 34). فظلم الإنسان في توزيع الثروة وكفرانه للنعمة ؛ بعدم استغلال جميع المصادر التي تفضّل الله بها عليه استغلالاً تامّاً ، هما السببان المزدوجان للمشكلة التي يعيشها الإنسان البائس منذ أبعد عصور التأريخ. وبمجرّد تفسير المشكلة على أساس إنساني يصبح بالإمكان التغلّب عليها، والقضاء على الظلم وكفران النعمة بإيجاد علاقات توزيع عادلة، وتعبئة كلّ القوى المادّية لاستثمار الطبيعة، واستكشاف كلّ كنوزها وكفرانه للنعمة ؛ بعدم استغلال جميع المصادر التي تفضّل الله بها عليه استغلالاً تامّاً، هما السببان المزدوجان للمشكلة التي يعيشها الإنسان البائس منذ أبعد عصور التأريخ. وبمجرّد تفسير المشكلة على أساس إنساني يصبح بالإمكان التغلّب عليها، والقضاء على الظلم وكفران النعمة بإيجاد علاقات توزيع عادلة، وتعبئة كلّ القوى المادّية لاستثمار الطبيعة، واستكشاف كلّ كنوزها.
https://telegram.me/buratha