الدكتور فاضل حسن شريف
يقول الشهيد السيد محمد باقر الصدر قدس سره في كتابه اقتصادنا عن الضمان الاجتماعي: والنصوص التشريعية التي تدلّ على المسئولية المباشرة للدولة في الضمان الاجتماعي واضحة كلّ الوضوح في التأكيد على هذه المسئولية، وعلى أنّ الضمان هنا ضمان إعالة، أي: ضمان مستوى الكفاية من المعيشة. ففي الحديث عن الإمام جعفر: (أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله كان يقول في خطبته: مَن ترك ضياعه فعليَّ ضياعه، ومن ترك دَيْناً فَعَليَّ دينُه ، ومَن ترك ماله فآكله). وفي حديث آخر أنّ الإمام موسى بن جعفر عليه السلام قال: محدّداً ما للإمام وما عليه: (أنّه وارثُ مَن لا وارثَ له ، ويعول من لا حِيلة له). وفي خبر موسى بن بكر: أنّ الإمام موسى قال له: (مَن طَلب هذا الرزق من حِلّه ليعود به على نفسه وعياله كان كالمجاهد في سبيل الله ، فإن غلب عليه فليستَدِن على الله وعلى رسوله ما يقوت به عياله. فإن مات ولم يقضه كان على الإمام قضاؤه، فإن لم يقضه كان عليه وزره. إنّ الله عزّ وجلّ يقول "إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا" (التوبة 60)، فهو فقيرٌ مسكينٌ مُغرَم). واستشهاد الإمام بهذه الآية الكريمة لا يعني حصر مسئولية ولي الأمر في الإعالة والإنفاق بمورد معيّن من موارد بيت المال، وهو الزكاة، وذلك لأنّ الآية لا تختص بالزكاة ، وإنّما هي تقرّر حُكماً عامّاً في الصدقة بجميع أقسامها، فتشمل المال الذي تدفعه الدولة إلى العاجز والمعوَز، لأنّه ضربٌ من الصدقة أيضاً. أضف إلى هذا: أنّ وليّ الأمر لا يجب عليه بسط الزكاة وتقسيمها على الأصناف الثمانية المذكورة في الآية، بل يجوز له إنفاقها على بعض تلك الأصناف. وجاء في كتاب الإمام عليّ إلى واليه على مصر: (ثُمَّ اللهَ اللهَ فِي الطَّبَقَةِ السُّفْلَى مِنَ الَّذِينَ لاَ حِيلَةَ لَهُمْ وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُحْتَاجِينَ وَأَهْلِ الْبُؤْسَى وَالزَّمْنَى ، فإِنَّ فِي هذِهِ الطَّبَقَةِ قَانِعاً وَمُعْتَرّاً ، وَاحْفَظْ لِلَّهِ مَا اسْتَحْفَظَكَ مِنْ حَقِّهِ فِيهِمْ ، وَاجْعَلْ لَهُمْ قِسمْاً مِنْ بَيْتِ مَالِكَ ، وَقِسماً مِنْ غَلاَّتِ صَوَافِي الإِسْلاَمِ فِي كُلِّ بَلَدٍ ، فإِنَّ لِلأَقْصَى مِنْهُمْ مِثْلَ الَّذِي لِلأَدْنَى ، وَكُلٌّ قَدِ اسْتُرْعِيتَ حَقَّهُ، فَلاَ يَشْغَلنَّكَ عَنْهُمْ بَطَرٌ، فَإِنَّكَ لاَ تُعْذَرُ بِتَضْيِيعِ التَّافِهَ لإِحْكَامِكَ الْكَثِيرَ الْمُهِمَّ . فَلاَ تُشْخِصْ هَمَّكَ عَنْهُمْ، وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لَهُمْ. وَتَفَقَّدْ أُمُورَ مَنْ لاَ يَصِلُ إِلَيْكَ مِنْهُمْ مِمَّنْ تَقْتَحِمُهُ الْعُيُونُ، وَتَحْقِرُهُ الرِّجَالُ، فَفَرِّغْ لأُولئِكَ ثِقَتَكَ مِنْ أَهْلِ الْخَشْيَةِ وَالتَّوَاضُع، فَلْيَرْفَعْ إِلَيْكَ أُمُورَهُمْ ، ثُمَّ اعْمَلْ فِيهِمْ بَالإِعْذَارِ إِلَى اللهِ تَعَالَى يَوْمَ تَلْقَاهُ، فَإِنَّ هؤُلاَءِ مِنْ بَيْنِ الرَّعِيَّةِ أَحْوَجُ إِلَى الإِنصَافِ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَكُلٌّ فَأَعْذِرْ إِلَى اللهِ تَعَالَى فِي تَأْدِيَةِ حَقِّهِ إِلَيهِ. وَتَعَهَّد ْ أَهْلَ الْيُتْمِ وَذَوِي الرِّقَّةِ فِي السِّنِّ مِمَّنْ لاَ حِيلَةَ لَهُ ، وَلاَ يَنْصِبُ لِلْمَسْأَلَةِ نَفْسَهُ). فهذه النصوص تقرّر بكلّ وضوح مبدأ الضمان الاجتماعي، وتشرح المسئولية المباشرة للدولة في إعالة الفرد وتوفير حدّ الكفاية له. هذا هو مبدأ الضمان الاجتماعي، الذي تعتبر الدولة مسئولة بصورة مباشرة عن تطبيقه، وممارسته في المجتمع الإسلامي.
ويستطرد السيد الصدر قدس سره عن موضوع الضمان الاجتماعي قائلا: وأمّا الأساس النظري الذي ترتكز فكرة الضمان في هذا المبدأ عليه، فمن الممكن أن يكون إيمان الإسلام بحقّ الجماعة كلّها في موارد الثروة، لأنّ هذه الموارد الطبيعية قد خلقت للجماعة كافّة، لا لفِئة دون فئة "هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً" (البقرة 29)، وهذا الحقّ يعيّن أنّ كلّ فرد من الجماعة له الحقّ في الانتفاع بثروات الطبيعة والعيش الكريم منها. فمن كان من الجماعة قادراً على العمل في حدّ القطاعات العامة والخاصة ، كان من وظيفة الدولة أن تهيئ له فرصة العمل في حدود صلاحيتها. ومن لم تتح له فرصة العمل أو كان عاجزاً عنه، فعلى الدولة أن تضمن حقّه في الاستفادة من ثروات الطبيعة، بتوفير مستوى الكفاية من العيش الكريم. فالمسئولية المباشرة للدولة في الضمان ترتكز على أساس الحقّ العام للجماعة في الاستفادة من ثروات الطبيعة، وثبوت هذا الحقّ للعاجزين عن العمل من أفراد الجماعة.
وعن علاقة الدولة بموضوع الضمان الاجتماعي يقول السيد محمد باقر الصدر: وأمّا الطريقة التي اتّخذها المذهب لتمكين الدولة من ضمان هذا الحقّ وحمايته للجماعة كلّها بما تضمّ من العاجزين، فهي إيجاد بعض القطاعات العامة في الاقتصاد الإسلامي، التي تتكوّن من موارد الملكية العامة، وملكية الدولة، لكي تكون هذه القطاعات إلى صف فريضة الزكاةـ ضماناً لحقّ الضعفاء من أفراد الجماعة، وحائلاً دون احتكار الأقوياء للثروة كلّها، ورصيداً للدولة يمدّها بالنفقات اللازمة لممارسة الضمان الاجتماعي، ومنح كلّ فرد حقّه في العيش الكريم من ثروات الطبيعة. فالأساس على هذا الضوء هو: حقّ الجماعة كلّها في الانتفاع بثروات الطبيعة. والفكرة التي ترتكز على هذا الأساس هي المسئولية المباشرة للدولة في ضمان مستوى الكفاية من العيش الكريم، لجميع الأفراد العاجزين والمعوزين. والطريقة المذهبية وضعت لتنفيذ هذه الفكرة هي : القطاع العام الذي أنشأه الاقتصاد الإسلامي ضماناً لتحقيق هذه الفكرة، في جملة ما يحقّق من أهداف. وقد يكون أروع نصّ تشريعي في إشعاعه المحتوى المذهبي للأساس والفكرة ، والطريقة جميعاً هو المقطع القرآني في سورة الحشر، الذي يحدّد وظيفة الفيء ودوره في المجتمع الإسلامي بوصفه قطاعاً عاماً. وإليكم النصّ "وَمَا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاء مِنكُمْ" (الحشر 6-7). ففي هذا النصّ القرآني قد نجد إشعاعاً بالأساس الذي تقوم عليه فكرة الضمان. وهو حقّ الجماعة كلّها في الثروة. "كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاء مِنكُمْ" (الحشر 7)، وتفسيراً لتشريع القطاع العام في الفيء، بكونه طريقة لضمان هذا الحقّ، والمنع عن احتكار بعض أفراد الجماعة للثروة وتأكيداً على وجوب تسخير القطاع العام لمصلحة اليتامى والمساكين وابن سبيل، ليظفر جميع أفراد الجماعة بحقّهم في الانتفاع بالطبيعة، التي خلقها الله لخدمة الإنسان. هناك بعض الروايات يدلّ على ما يخالف ذلك في تفسير الآية، كالرواية التي تتحدّث عن نزول الآيتين في موضوعين مختلفين: فالأولى في الفيء، والثانية في الغنيمة أو في خمس الغنيمة خاصة. ولكنّ هذه الروايات ضعيفة السند ، كما يظهر بتتبع سلسلة رواتها. ولهذا يجب أن نفسّر الآيتين في ضوء ظهورهما. ومن الواضح ظهورهما في الحديث عن موضوع واحد وهي الفيء. فالآية الأولى تنفي حقّ المقاتلين في الفيء، لأنّه ممّا لم يوجفوا عليه بخيل ولا ركاب، والآية الثانية تحدّد مصرف الفيء، أي: الجهات التي يصرف عليها الفيء، ومن الواضح أنّ كون المساكين وابن السبيل واليتامى مصرفاً للفيء لا ينافي كونه مِلكاً للنبيّ والإمام باعتبار منصبه، كما دلّت على ذلك الروايات الصحيحة. فالمستخلَص من تلك الروايات بعد ملاحظة الآية معها: أنّ الفيء ملك المنصب الذي يشغله النبي والإمام. ومصرفه الذي يجب عليه صرفه عليه هو ما يدخل ضمن دائرة العناوين التي ذكرتها الآية، من المصالح المرتبطة بالله والرسول وذوي القربى والمساكين وابن السبيل واليتامى. وبتحديد المصرف بموجب الآية الكريمة، يقيّد عموم قوله (يجعله حيث يحبّ) في رواية زرارة.
https://telegram.me/buratha