الدكتور فاضل حسن شريف
يقول الدكتور محمد حسين الصغير رحمه الله في كتابه نظرات معاصرة في القرآن الكريم عن عالمية القرآن: بقي أن نبتعد بك عن المناخ الجدلي والاحتجاجي في عالمية القرآن إلى المناخ الكوني العام في عالميته التي لا تحد ولا تحتجز بل تمتد وتتسع لتشمل الأفاق والمشارق والمغارب، والأبعاد الفضائية، والمسافات الكونية الهائلة التي قد يعجز البشر عن الاحاطة بكثير من معاييرها الدقيقة. 1 ـ فحينما يريد أن يقرب القرآن تصور البعد بين الحقيقتين المحسوستين إدراكاً يحدد ذلك بأطول مسافة يدركها الحدس العلمي فيقول "حَتَّىٰ إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ المَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ" (الزخرف 38). فالمراد هنا أما أن يكون بعد مشرقي الشمس والقمر، أو بعد مشرقي الشمس في الصيف والشتاء، وكلاهما مقاس في الفضاء، ولكنه غير معروف لدى أهل الأرض جميعاً، وإنما هو معروف لدى المتخصصين بالبعد الفلكي أو المسح الأرضي، أما إذا أعتبرنا تلك المسافة إنما تقاس على سطح الأرض، فيقتضي الأمر أن يراد بها جزئَي الكرة الأرضية ليلاً ونهاراً، فالمشرق يكوّن بعده نصف المسافة والمغرب يكوّن النصف الآخر، بمعنى حدوث المشرق في نصف الكرة الأرضي وحدوث غروبها في النصف الآخر ، وهو ما يعتبر لكل منهما نصف محيط الأرض، فما كان ليلاً كان النصف الأول وما كان نهاراً كان النصف الثاني. 2 ـ وحينما يريد القرآن أن يعطي القوة غير المحدودة في تفصيلات الأبعاد الهائلة غير المحسوبة فإنه يقول "فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ المَشَارِقِ وَالمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ" (المعارج 40). فالشمولية بهذا القسم العظيم تمتد لتتسع لمشارق الأرض ومغاربها، ومشارق القمر ومغاربه، ومشارق الشمس ومغاربها، ومشارق الكواكب ومغاربها، ومشارق النجوم ومغاربها، وكلما يمكن تصوره في الوجدان مما له مشارق ومغارب في كل الأفلاك مما يقتضي عالمية التصوير للعوالم كافة في أبعادها الحسابية التي لا يتحقق حصرها ولا تخمينها مسافات ومساحات وأبعاداً. 3 ـ وحينما يريد القرآن منك أن تتأمل بعض الظواهر الكونية في الرعد والبرق والظلمات والأمواج والسراب والالتماع في المفاوز، تندفع في ظلاله العجيبة وأنت أكثر إندهاشاً مما ترى، وأنت أكثر إبتهاجاً فيما تتوصل إليه من المشاهد العالمية المجردة عن الطلاء والتزويق بل هي حقائق هائلة مدركة بالحس والوجدان دون حاجة إلى إستدلال أو برهان أو شواهد قال تعالىٰ "أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ المَوْتِ وَاللهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ * يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُم مَّشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" (البقرة 19-20).
ويستطرد الدكتور الصغير عن عالمية القرآن: 4 ـ وهناك من أمثال القرآن ما تقف عنده متأملاً مترصداً ، ولنتائجه خاشعاً متحققاً ، يأخذ بيدك إلى حياة أوسع، وتصور أشمل، وتدقيق أروع، تلمس من خلال ذلك كله رسالة القرآن العالمية، أنت الآن إزاء مثلين متراصفين في سورة واحدة، يتحدث الأول منهما عن حياة الصحراء والسراب الخادع فيها، وما يترشح في ضوء ذلك من معنى إيحائي يتمثله العربي في باديته، ويتمرسه البدوي في حياته. قال تعالىٰ "وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّىٰ إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللهُ سَرِيعُ الحِسَابِ" (النور 39). فالمثل القرآني تصوير بالتمثيل التشبيهي لأعمال الكافرين مشبهة بذلك السراب المنتشر في الصحراء، يتخيله الظامئ ماءً، ويكتشفه لدى التحقيق التماعاً خلّباً، وهو بأمس الحاجة إلى الماء، ولا ماء، فهو لا يجده ولكنه يجد الله عنده فيوفيه الحساب بسرعة مذهلة، ولك أن تتصور هذا السراب في صحراء نجد وبادية الحجاز وطرق الشام. هذا الفهم العربي الخالص لهذا المناخ يتقاطع بمناخ آخر تتحدث عنه البحار الهادرة في محيط كالمحيط الأطلسي أو الهادي، وتتجلىٰ صوره في بلاد كبلاد الضباب الدائم والظلمات المتراكبة والسحاب الجاثم، مما لا عهد به للعرب، ولا علاقة له بأثباج جزيرة العرب. قال تعالىٰ "أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ" (النور 40). هذه ظلمات في بحر لجي لا قعر له ولا ساحل ، عميق غزير المادة تحوطه الأمواج المتدافعة ، ويعلوه السحاب الثقال، وتملؤه الظلمات المرعبة، ظلمة الليل، وظلمة البحر، وظلمة الغمام، حتى ليخطئ الانسان فيه تشخيص يديه، فلا يرى ذلك أصلاً.
وعن القرآن لغويا يقول الاستاذ محمد حسين الصغير: والقرآن اسم علم غير مشتق خاص بكلام الله تعالى كما يراه الشافعي ويرجحه السيوطي وعليه أئمة الأصوليين. وقد يكون مشتقاً من القراءة ومرادفاً لها باعتباره مصدراً. وقد يكون مشتقاً من القرائن لأن الآيات فيه يصدق بعضها بعضاً، ويشبه بعضها بعضاً كما يراه الفراء. وقد يكون معناه القراءة في الأصل، أو مصدر قرأت بمعنى تلوت، وهو المروي عن ابن عباس ومنه قوله تعالى "إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ" (القيامة 17-18) ثم نقل من هذا المعنى وأصبح إسماً لكلام الله تعالى، ولا نميل إلى ما رجحه بعض المحدثين من أن العرب عرفوا القراءة لا بمعنى التلاوة، بل أخذوها عن أصل آرامي لذلك، وكان ذلك كافياً لتعريبه، وإستعمال الاسلام له في تسميته كتابه الكريم: بل الله سماه بذلك :"إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ" (الواقعة 77-78) وعلى ذلك لغة العرب دون أصل أجنبي. أما مدارس النحو العربي فكان سعيها وراء ضبط قراءة القرآن وأدائه سليماً على النحو العربي الفصيح، دون الوقوع في طائلة اللحن، وتساهل العامة في القراءة ، ليسلم النص القرآني من التحريف والايهام معرباً بإبانة ، ومشرقاً بوضوح، فبداية الضبط في نقط المصحف من قبل أبي الأسود الدؤلي، أو يحيى بن يعمر العدواني، أو نصر بن عاصم إنما كان صيانة للقرآن من اللحن على حد تعبير النووي: (ونقط المصحف وشكله مستحبٌ لأنه صيانة من اللحن والتحريف). وبدأ التحوط على القرآن فيما وضعه أمير المؤمنين الإمام علي عليهالسلام من معالم النحو على روايات منها: تأملت كلام العرب فوجدته قد فسد بمخالطة هذه الحمراء يعني الاعاجم، فأردت أن أضع شيئاً يرجعون إليه، ويعتمدون عليه، وإذا الرقعة فيها: الكلام كله: اسم وفعل وحرف، فالاسم ما أنبأ عن المسمىٰ، والفعل ما أنبئ به، والحرف ما أفاد معنى. وقال لي: أنحُ هذا النحو، وأضف إليه ما وقع إليك. أ ـ حينما سمع إعرابياً يقرأ "لاَّ يَأْكُلُهُ إِلاَّ الخَاطِئُونَ" (الحاقة 37)، فوضع النحو. ب ـ حينما دخل عليه أبو الأسود على الامام علي عليهالسلام فوجد في يده رقعة، يقول أبو الأسود ، فقلت: ما هذه يا أمير المؤمنين؟ فقال: إني تأملت كلام العرب فوجدته قد فسد بمخالطة هذه الحمراء يعني الاعاجم ، فأردت أن أضع شيئاً يرجعون إليه ، ويعتمدون عليه ، وإذا الرقعة فيها: الكلام كله: اسم وفعل وحرف، فالاسم ما أنبأ عن المسمىٰ، والفعل ما أنبئ به، والحرف ما أفاد معنى. وقال لي: أنحُ هذا النحو، وأضف إليه ما وقع إليك.
https://telegram.me/buratha