الدكتور فاضل حسن شريف
وعن تصور القرآن الكريم للاجرام يقول الدكتور محمد حسين الصغير رحمه الله: الاجرام كما يصوره لنا القرآن الكريم ذو ظاهرتين: الأولى: الاجرام الفردي وهو الذي يتحدث به عن المجرم ذاته، ويراد به كل جنس المجرم أنّى كان جرمه ، ويمثله قوله تعالى: أ ـ "يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ المُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ" (المعارج 11-12). ب ـ "إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَىٰ" (طه 74). وقد يبرز الاجرام الفردي في هذا الملحظ مزعوماً، دون جريمة كقوله تعالى "قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِّمَّا تُجْرِمُونَ" (هود 35). فليس هناك افتراء، وليس هناك اجرام، ولو ثبت الافتراء افتراضاً لتحقق الاجرام، ولو تحقق الاجرام، فلا تؤخذون بجرمي ولا أؤخذ بجرمكم، وفيه تأكيد على اجرام الكافرين فيما يبدو. الظاهرة الثانية: الاجرام الجماعي، وهو الذي يتحدث به القرآن عن الجماعات المجرمة في مقارفتها الجريمة ومعايشتها ، ويمثله قوله تعالى: أ ـ "سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِندَ اللهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ" (الانعام 124). ب ـ "إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ" (المطففين 29). ج ـ "وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا" (الانعام 123). بعد تشخيص هاتين الظاهرتين نجد القرآن متحدياً عن سمات المجرمين وأوصافهم في كل من النشأتين الحياة الأولى، والحياة الآخرة.
وعن مشخصات الجريمة في القرآن الكريم يقول الدكتور الصغير: وتبدأ مشخصات الجريمة في القرآن بالقتل المتعمد، وبقطع الطريق، وبالسرقة، وبالزنا، وكبائر المحرمات، وأحاول فيما يلي القاء الضوء على بعض هذه المفردات ، ومعالجتها في القرآن نفسياً، دون الدخول في التفصيلات المضنية. 1 ـ القتل: يعتبر القتل من أبشع الجرائم في القوانين السماوية ، وهو كذلك في القوانين الوضعية، وقد حدد الله تعالى هذا المعلم بأسبابه ودوافعه ونتائجه ، وهو نوعان: قتل العمد، وقتل الخطأ، ولهما في الشريعة الاسلامية حدود في القصاص والديات ، ولا يتعلق حديثنا لمثل هذه الحدود وإنما بالمشخصات الجرمية فحسب. أ ـ قال تعالى "وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالحَقِّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلا يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنصُورًا" (الاسراء 33). فقد حددت هذه الآية عدة معالم لحالة القتل: الأولى: عدم جواز قتل النفس التي حرم الله الا بالحق. الثانية: من قتل مظلوماً فلوليه الحق بالقصاص. الثالثة : الاكتفاء في المقاصة الشرعية عن الاسراف. وقد كرّر تعالى الملحظ الأولى في آية أخرى فقال "وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالحَقِّ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ" (الانعام 151). ب ـ وفيما اقتص الله تعالى من خير ابني آدم حددت معالم أخرى لجواز القتل وحرمته مع الارشاد الموحي، قال تعالى "مِنْ أَجْلِ ذَٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعً" (المائدة 32). وتحدد استنباطات الفقهاء ان القتل يجب في مواضع الكفر بعد الايمان على تفصيل به في مسألة الارتداد، والزنا بعد الاحصان، والفساد في الأرض كالعصابات المسلحة، وقطاع الطرق، وفي حالة القصاص. والأول والثاني مستفادان من السنة الشريفة، والثالث والرابع من النص القرآني السابق.
ويقول الاستاذ محمد حسين الصغير رحمه الله عن القتل المتعمد: وقد عالج القرآن ظاهرة القتل المتعمد نفسيًّا في عدة ملامح تحذيرية وترغيبية وإصلاحية. أولاً: حذر القرآن الكريم من قتل الأولاد خشية الفقر بأن ربط الرزق بالله، فنهى عن القتل لهذا الملحظ فقال في آيتين: أ ـ "وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُم مِّنْ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ" (الانعام 151). ب ـ ( وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ" (الاسراء 31). ويلاحظ هنا الذوق البلاغي في القرآن إذ استعمل في آية الأنعام "مِّنْ إِمْلاقٍ" وفي آية الإسراء "خَشْيَةَ إِمْلاقٍ" (الاسراء 31) وفي الأولى قدم ضمير الخطاب "نَرْزُقُكُمْ" (الانعام 151) على ضمير الغائب "إِيَّاهُمْ" (الانعام 151) وفي الثانية عكس الامر فاستعمل مكان المخاطب الغائب ( نَرْزُقُهُمْ ) ومكان الغائب المخاطب "إِيَّاكُمْ" وهو ملحظ دقيق تفصيله في غير هذا البحث. ثانياً : الانكار الشديد بصيغة الاستفهام، قال تعالى "وَإِذَا المَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ" (التكوير 8-9). ثالثاً: الوعيد بالخلود في النار، وغضب الله تعالى ولعنه وهو أشد، وإعداد العذاب العظيم وهو أقطع، ويمثل هذا الاتجاه قوله تعالى "وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا" (النساء 93). رابعاً: الثناء المطلق والوعد الجميل مع الوعيد باعتبار الذين يتصفون بعدم القتل من عباد الرحمن ، قال تعالى في صفتهم "وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلَٰهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ يَلْقَ أَثَامًا" (الفرقان 68). خامساً: التبكيت والتسفيه والخسران فيما قال تعالى "قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُشْرِكِينَ" (الانعام 14). وهكذا نجد القرآن العظيم قد استقطب مختلف الاساليب لدرء جريمة القتل بين الوعد والوعيد وتهيأة المناخ النفسي ليطمئن المجتمع وتصان الأرواح.
https://telegram.me/buratha