الدكتور فاضل حسن شريف
تكملة للحلقة السابقة قال الله تعالى عن المناسك ومشتقاتها "قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ" ﴿الأنعام 162﴾ وَنُسُكِي: وَ حرف عطف، نُسُكِ اسم، ى ضمير، قل إن صلاتي ونسكي: عبادتي من حج وغيره، قل أيها الرسول لهؤلاء المشركين: إن صلاتي، ونسكي، أي: ذبحي لله وحده، لا للأصنام، ذلك مما تذبحونه لغير الله، وعلى غير اسمه كما تفعلون، وحياتي وموتي لله تعالى رب العالمين، و "وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا لِّيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ ۗ فَإِلَـٰهُكُمْ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا ۗ وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ" ﴿الحج 34﴾ منسكا اسم، منسكا: شريعة خاصة، نسكاً و عبادة، جعلنا منسكا: بفتح السين مصدر وبكسرها اسم مكان: أي ذبحا قربانا أو مكانه، ولكل جماعة مؤمنة سلفت، جعلنا لها مناسك مِنَ الذبح وإراقة الدماء، وذلك ليذكروا اسم الله تعالى عند ذبح ما رزقهم مِن هذه الأنعام ويشكروا له، و "لِّكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ ۖ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ ۚ وَادْعُ إِلَىٰ رَبِّكَ ۖ إِنَّكَ لَعَلَىٰ هُدًى مُّسْتَقِيمٍ" ﴿الحج 67﴾ منسكا اسم، نَاسِكُوهُ: نَاسِكُو اسم، هُ ضمير، منسكا: شريعة خاصة، نسكاً و عبادة، مَنْسَكًا: المكان الذي يتعبد فيه الناس، لكل أمة جعلنا منسكا: بفتح السين وكسرها شريعة، هم ناسكوه: عاملون به، لكل أمة من الأمم الماضية جعلنا شريعة وعبادة أمرناهم بها، فهم عاملون بها، فلا ينازعنك أيها الرسول مشركو قريش في شريعتك، وما أمرك الله به في المناسك وأنواع العبادات كلها، وادع إلى توحيد ربك وإخلاص العبادة له واتباع أمره، إنك لعلى دين قويم، لا اعوجاج فيه.
وردت مناسك ومشتقاتها في القرآن الكريم: مَنَاسِكَنَا، نُسُكٍ، مَنَاسِكَكُمْ، وَنُسُكِي، مَنسَكًا، نَاسِكُوهُ. جاء في معاني القرآن الكريم: نسك النسك: العبادة، والناسك: العابد واختص بأعمال الحج، والمناسك: مواقف النسك وأعمالها، والنسيكة: مختصة بالذبيحة، قال: "ففدية مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ" ﴿البقرة 196﴾، "فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ" ﴿البقرة 200﴾، "مَنسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ" ﴿الحج 67﴾.
قال أمير المؤمنين عليه السلام: قصم ظهري عالم متهتك، وجاهل متنسك، فالجاهل يغش الناس بتنسكه، والعالم يغرهم بتهتكه. عن ابي جعفر محمد بن علي بن الحسين، عن أبيه، عن جده قال: لما قضى رسول الله صلى الله عليه وآله مناسكه من حجة الوداع ركب راحلته وأنشأ يقول: لا يدخل الجنة الا من كان مسلما، فقام اليه أبو ذر الغفاري رحمه الله فقال: يا رسول الله وما الاسلام؟ فقال صلى الله عليه وآله: الاسلام عريان ولباسه التقوى وزينته الحياء، وملاكه الورع، وكماله الدين، وثمرته العمل، ولكل شيء اساس وأساس الاسلام حبنا أهل البيت. عن البرقي عن ابيه باسناده يرفعه الى أمير المؤمنين عليه السلام انه قال: قطع ظهري رجلان من الدنيا؛ رجل عليم اللسان فاسق، ورجل جاهل القلب ناسك. هذا يصد بلسانه عن فسقه، وهذا بنسكه عن جهله، فاتقوا الفاسق من العلماء، والجاهل من المتعبدين. اولئك فتنه كل مفتون، فاني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: يا علي هلاك امتي على يدي كل منافق عليم اللسان.
عن الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل للشيخ ناصر مكارم الشيرازي: أنّ حجّاج بيت اللّه الحرام يتّجهون بعد أداء مناسك العمرة نحو أداء مناسك الحجّ، و أوّل موقف يقفون فيه هو في (عرفات)، و هي صحراء واسعة تقع على بعد أربعة فراسخ من مكّة يقف فيها الحاج من ظهر يوم التاسع من ذي الحجّة حتّى غروب ذلك اليوم. و في سبب تسمية هذه الأرض بهذا الاسم قيل: إنّ إبراهيم عليه السّلام قال حين أراه جبرائيل مناسك الحجّ: (عرفت، عرفت). و قيل إن هذه القصة وقعت لآدم و حواء، و قيل أيضا أن آدم و حواء تعارفا في هذا المكان، و قيل أن حجاج بيت اللّه يتعارفون فيما بينهم في هذا المكان، و تفسيرات أخرى. و لا يبعد أن تكون التسمية إشارة إلى حقيقة أخرى أيضا، و هي أن هذه الأرض المشرّفة التي تبدأ منها أولى مراحل الحجّ محيط مناسب جدّا لمعرفة اللّه. من مواقف الحجّ (عرفات) و هي صحراء و تقع على بعد 20 كيلومترا تقريبا من مكّة و يجب على الحجّاج أن يقفوا في هذا المحل من ظهر يوم التاسع من ذي الحجّة إلى غروب الشمس فيشتغلوا بالعبادة و الذكر، ثمّ الوقوف ب (المشعر الحرام أو المزدلفة) حيث يبيتون هناك ليلة عيد الأضحى و يبقون هناك إلى قبل طلوع الشمس مشغولين بالدعاء و المناجاة مع اللّه تعالى، و الثالث أرض (منى) و هي محل ذبح الأضاحي و رمي الجمرات و حلّ الإحرام و أداء مناسك العيد. قوله تعالى "وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ" (الحج 32) (الشعائر) جمع (شعيرة) بمعنى العلامة و الدليل، و على هذا فالشعائر تعني علامات اللّه و أدلّته، و هي تضمّ عناوين لأحكامه و تعاليمه العامّة، و أوّل ما يلفت النظر في هذه المراسم مناسك الحجّ التي تذكّرنا باللّه سبحانه و تعالى. و من البديهي كون مناسك الحجّ من الشعائر التي قصدتها هذه الآية. قوله تعالى "قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَ نُسُكِي وَ مَحْيايَ وَ مَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ" (الانعام 162) فأنا أحيى للّه، و له أموت، و أفدي بكل شيء لأجله، و كل هدفي و كل حبّي بل كل وجودي له. و (النسك) يعني في الأصل العبادة، و لذا يقال: للعابد: ناسك، و لكن هذه الكلمة تطلق في الأغلب على أعمال الحج فيقال: مناسك الحج. و قد احتمل البعض أن يكون الموارد من (النسك) هنا هو (الأضحيّة). و لكن الظاهر أنّه يشمل كل عبادة، و هو إشارة أوّلا إلى الصّلاة كأهم عبادة، ثمّ إلى سائر العبادات بشكل كلّي، يعني صلاتي و كل عباداتي، بل و حتى موتي و حياتي كلها له تعالى.
https://telegram.me/buratha