الدكتور فاضل حسن شريف
جاء في كتاب مجاز القرآن خصائصه الفنيّة وبلاغته العربيّة للدكتور محمد حسين علي الصغير عن مجاز اللزوم: أما أنواع ( مجاز اللزوم) فهي عنده. 1ـ التعبير بالإذن عن المشيئة، لأن الغالب أن الإذن في الشيء لا يقع إلا بمشيئة الإذن واختياره، والملازمة الغالبة مصححة للمجاز، ومن ذلك قوله تعالى: "وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله" (ال عمران 145). أي بمشيئة الله، ويجوز في هذا أن يراد بالاذن أمر التكوين، والمعنى (وما كان لنفس أن تموت الا بقول الله موتي). وهذا من المجاز العقلي، وعلاقته السببية كما هو واضح، أو أنه من المجاز المرسل باعتبار الإذن تعبيرا عن المشيئة وعلاقته السببية أيضا. 2 ـ التعبير بالإذن عن التيسير والتسهيل في مثل قوله تعالى: "والله يدعوا الى الجنة والمغفرة بإذنه" (البقرة 221). أي بتسهيله وتيسيره. وهذا من المجاز اللغوي المرسل، وعلاقته السببية، أي بسبب من مشيئة الله تعالى وتيسيره وتسهيله. 3 ـ تسمية ابن السبيل في قوله تعالى: "وأبن السبيل" (البقرة 177) لملازمته الطريق. وهذا من المجاز العقلي، ووجهه وعلاقته من باب تسمية الحال باسم المحل، وذلك لكونه موجود في السبيل. 4 ـ نفي الشيء لانتفاء ثمرته وفائدته للزومهما عنه غالبا في مثل قوله تعالى: "كيف يكون للمشركين عهد" (التوبة 7). أي وفاء عهد أو تمام عهد ، فنفى العهد لانتفاء ثمرته ، وهو الوفاء والاتمام. وهذا التعليل وإن كان واردا، ولكن المراد قد يكون.ـ والله العالم ـ من باب الكناية، أي أن المشركون غدرة ، فعبّر بعدم الوفاء بالعهد كناية عن الغدر الذي اتصفوا له، والكناية ليست من المجاز حتى عند المصنف رحمهالله. 5 ـ التجوز بلفظ الريب عن الشك، لملازمة الشك القلق والاضطراب، فإن حقيقة الريب قلق النفس، ومن ذلك قوله تعالى: "لا ريب فيه" (البقرة 2) أي لا شك في إنزاله أو في هدايته. وهذاـ والله العالم ـ من باب الكناية، أي اطمئنوا للقرآن، ولا تقلقوا، ولا تضطربوا، فإن من شأن الريب القلق والاضطراب. والريب مصدر من رابني، بمعنى الشك، وهو أن نتوهم بالشيء أمرا مريبا فينكشف الأمر عما تتوهم، وبمعنى الريبة، وحقيقتها: قلق النفس واضطرابها وعدم اطمئنانها، ومنه ما أورده الزمخشري عن الإمام الحسن بن علي عليهما السلام أنه قال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (دع ما يريبك الى ما لا يريبك)، فإن الشك ريبة، وإن الصدق طمأنينة، اي فإن كون الأمر مشكوكا فيه مما تقلق له النفس ولا تستقر، وكونه صحيحا صادقا مما تطمئن له وتسكن.
ويستمر الدكتور الصغير رحمه الله متحدثا عن مجاز اللزوم: 6 ـ التعبير بالمسافحة عن الزنا لأن السفح صب المني، وهو ملازم للجماع غالبا، ولكنه خص بالزنا إذ لا غرض فيه سوى صب المني، بخلاف النكاح فإن مقصوده الولد والتعاضد والتناصر بالاختان والأصهار، والأولاد والأحفاد، ومثاله في قوله تعالى: ( محصنين غير مسافحين" (النساء 24) (المائدة 5) أي: غير مزانين. وهذا أن كان الأمر كما ذكره، فهو تعبير بالكناية المهذبة فقد ذكر المسافحة وأراد لازمها. 7 ـ التعبير بالمحل عن الحال لما بينهما من الملازمة الغالبة كالتعبير : باليد عن القدرة والاستيلاء، والعين عن الإدراك ، والصدر عن القلب وبالقلب عن العقل ، وبالأفواه عن الألسن، وبالالسن عن اللغات، وبالقرية عو قاطنيها، وبالساحة عن نازليها ، وبالنادي والندي عن أقلهما. وقد ورد كل ذلك في القرآن الكريم. وهذا كله قسيم بين المجازين اللغوي والعقلي في القرآن الكريم، وهما جوهر المجاز القرآني. فالتعبير باليد عن القدرة والاستيلاء، وبالعين عن الإدراك ، وبالصدر عن القلب، وبالقلب عن العقل ، وبالأفواه عن الالسن، وبالألسن عن اللغات، كله من المجاز اللغوي المرسل، باعتباره نقلا عن الأصل اللغوي بقرينة لإرادة المجاز، مع بقاء المعنى اللغوي على ماهيته، وإضافة المعنى الجديد إليه. والتعبير بالقرية عن قاطنيها، وتوابع ذلك، كله من المجاز العقلي، فالقرية لا تسأل جدرانها بل سكانها، فيكون التقدير أهل القرية، وما استفيد هنا لم يكن بقرينة لفظية مقالية، وإنما بقرينة معنوية حالية، حكم بها العقل في الإسناد. 8 ـ التعبير بالإرادة عن المقاربة، لأن من أراد شيئا قربت مواقعته إياه غالبا، ومن ذلك قوله تعالى: "فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقضّ فأقامه" (الكهف 77). وهذا من المجاز العقلي، فليس الجدار كائنا مريدا، ولا هو بقادر على هذا الفعل، وقد أدركنا بالضرورة العقلية، ومن سياق الإسناد الجملي، أن المجاز هو الذي أشاع روح الإرادة في الجدار، وكأنه يريد. قال أبو عبيدة: (وليس للحائط إرادة، ولا للموات، ولكنه إذ كان في هذه الحال من ربّه فهو إرادته). 9 ـ التجوز بترك الكلام عن الغضب، لأن الهجران وترك الكلام يلازمان الغضب غالبا، ومنه قوله تعالى: "ولا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم" (البقرة 174). وهذاـ والله العالم تعبير بالكناية، ولا علاقة له بالمجاز، فعبّر بعدم الكلام عن الغضب والانتقام والمجازاة. 10 ـ التجوز بنفي النظر عن الإذلال والاحتقار ، كقوله تعالى : ( ولا ينظر إليهم يوم القيامة" (ال عمران 77). وهذا من الكناية أيضا للتعبير عن ازدرائهم ، وعدم رضاه عنهم، وليس لله جارحة فينظر بها إليهم، فهو بصير بغير عين، وسميع بغير أذن وهو على العكس من قوله تعالى: "وجوه يومئذ ناضرة (22) الى ربها ناظرة (23)" (القيامة 22-23) فهؤلاء قد أنعم الله عليهم بنضرة النعيم، فنظروا الى رحمته ورأفته، وتطلعوا الى حسن ثوابه ومجازاته، وتوقعوا لطف عنايته ورعايته، فكان ذلك نظرا الى عظيم إحسانه، وكريم أنعامه، إذ ليس الله جسما، أو قالبا، أو مثالا، حتى ينظروا إليه، فعدم نظره تعالى الى الكافرين متقارب من نظر المؤمنين إليه من جهة الكناية الهادفة. وقد يكون ذلك مجازا مرسلا بإضافة عدم العناية والرعاية، وإرادة الإحتقار والإذلال، معنى جديدا الى عدم النظر، وهو عكسه في الآيتين التاليتين.
ويستطرد الدكتور محمد حسين الصغير عن هاتين الآيتين قائلا: 11 ـ الحادي عشر: التجوز باليأس عن العلم، لأن اليأس من نقيض العلوم ملازم للعلم غير منفك عنه، كقوله تعالى: "أفلم يأيئس الذين ءامنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا" (الرعد 31) فإن كان هذا مجازا فهو مجاز مرسل إذ أضاف معنى ثانويا للفظ اللغوي، أو هو ـ والله العالمـ من قبيل استعمال الأضداد باللغة، فيأتي التيئيس بمعنى العلم، وبمعنى عدم العلم وانقطاع الأمل، وعلى هذا فلا علاقة له بالمجاز. 12 ـ التعبير بالدخول عن الوطء لأن الغالب من الرجل إذا دخل بإمرأته أنه يطؤها في ليلة عرسها، ومنه قوله تعالى: "وربإبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهنّ فإن لم تكونوا دخلتم بهنّ فلا جناح عليكم" (النساء 23). وهذا من باب التعبير بالكناية المهذبة، وليس من المجاز في شيء فاستعمل الدخول، وأراد لازمه وهو الوطء، تهذيبا للعبارة، وصونا للحرمات. 13 ـ وصف الزمان بصفة ما يشتمل عليه ويقع فيه كقوله تعالى: "فذلك يومئذ يوم عسير" (المدثر 9). وهذا من الجاز اللغوي / المرسل، وهو من باب إسناد الفاعلية، أو الصفة الثبوتية للزمان لمشابهته الفاعل الحقيقي، فقد أسند العسرة الى اليوم ووصفه بها، واليوم دال على زمن من الأزمان، ولا تستند اليه صفة الفاعلية إلا مجازا، وكأنه يريد فذلك يومئذ يوم ذو عسرة، تعبيرا عما يجري فيه من المكاره والشدائد، والله سبحانه هو العالم. 14 ـ وصف المكان بصفة ما يشتمل عليه ويقع فيها، كقوله تعالى: ( رب أجعل هذا البلد ءامنا" (ابراهيم 35). وهذا هو المجاز العقلي فيما يظهر لي، فالأمن لا يلحق بالبلد وإنما بأهل البلد ، وما قيل في قوله تعالى: "وسئل القرية" (يوسف 82)، يقال هنا. 15 ـ (وصف الأعراض بصفة من قامت به ، كقوله تعالى: "فإذا عزم الأمر" (محمد 21)، والعزم صفة لذوي الأمر. وقوله تعالى: "فما ربحت تجارتهم" (البقرة 16) وصف التجارة، وهو صفة للتاجر). وهذا من المجاز العقلي في الآيتين الكريمتين: فالمراد من الآية الأولى. والله العالم ـ عزم ذوي الأمر على تنفيذ الأمر، فليس للأمر إرادة على العزم، وليس العزم مما يسند فعله الى الأمر، وفي الآية الثانية: الربح مجازي فيها، ولا يراد به الزيادة على رأس المال في المتاجرة، والتجارة فيها مجازفة، فلا يراد بها المعاملات السوقية في شتى البضائع. وإنما المراد بالربم تحقيق المعنى المجازي منه بالفائدة المتوخاة في إنفاق الأعمار وعدم خسرانها، والمراد بالتجارة المعنى المجازي منها بالإثابة والمثابرة وصالح الأعمال، وهذا إنما يدرك بأحكام العقل من خلال إسناد الجملة، فهو هناكما في الآية الأولى: مجاز عقلي.
https://telegram.me/buratha