الدكتور فاضل حسن شريف
ويستمر الشيخ جلال الدين الصغير حول عصمة النبي نوح عليه السلام قائلا: وليس ثمة تشكيك من جانب نوح عليهالسلام بصدق الوعد الإلهي، فلقد قرن بين سؤال النجاة لابنه، وبين تصديقه الكامل بالوعد الرباني الحق، ثم أعقبها بالقول بأن الله أحكم الحاكمين، ليشير إلى تسليمه الكامل للارادة الربانية، فالحكمة التي تعني وضع الشيء في موضعه، تخبرنا بأنه كان مستسلماً لحقانية هذه الارادة، ولكن رغبته في معرفة الذي حصل هي التي دفعته للتساؤل عن مصير ابنه، مثله في ذلك مثل إبراهيم عليه السلام الذي لم يمنعه إيمانه العميق من سؤال ربه كي يزيد من اطمئنان قلبه، كما أوضحت الآية الكريمة: "وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَ لَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي" (البقرة 260). ووفق ذلك لا نلمس أي عتاب لانتفاء الذنب، أما عظته أن لا يكون من الجاهلين فهي رواقع الحال تؤكد عدم حصول الذنب ، لأن الضيغة المطروحة في الآية هي صيغة ناظرة إلى المستقبل لا إلى الحال كما هو واضح، والنصيحة لشأن المستقبل ليس فيها ما يشعر بارتكاب الذنب أو الاقتراب منه، بل يمكن أن تكون نابعة من الحرص البالغ للناصح على سلامة المنصوح فيذكره لأن الذكرى تنفع المؤمنين ، ولهذا كان جواب الاستجابة من نوح عليه السلام على هذا التذكير هو تأكيد الصيغة المستقبلية: "رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ" (هود 47)، ولو كانت استعاذته من أمر قد حصل لجاء الخطاب بصيغة الماضي، أي لقال: أعوذ بك مما سألت أو ما إلى ذلك.
ويستطر الشيخ جلال الدين الصغير عن شبهة عصمة بقية الانبياء قائلا: 3 ـ نسبة الكذب لإبراهيم عليه السلام: ومنشأ هذه الشبهة يعود إلى ما رواه القوم في كتبهم فلقد روى البخاري ومسلم وبقية أصحاب الصحاح والسنن والمسانيد وسائر المفسرين عن أبي هريرة قال: لم يكذب إبراهيم عليه الصلاة والسلام إلاّ ثلاث كذبات، ثنتين منهن في ذات الله عزّ وجل ، قوله: إني سقيم، وقوله: بل فعله كبيرهم هذا، وقال: بينا هو ذات يوم وسارة إذ أتى على جبار من الجبابرة فقيل له: إن هاهنا رجلاً معه امرأة من أحسن الناس، فأرسل إليه فسأله عنها، فقال: من هذه؟ قال: أختي فأتى سارة قال: يا سارة ليس على وجه الأرض مؤمن غيري وغيرك، وإن هذا سألني عنك فأخبرته أنك أختي فلا تكذّبيني ، فأرسل إليها. أما قوله الأول فقد جاء ضمن سياق محاورة فكرية نتلمسها في قوله تعالى: "وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ * إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ * أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ * فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ * فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ * فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ" (الصافات 83-90)، ووفقاً لحديث الروايات فإن القوم قد دعوه لحضور عيد معهم ، وأعيادهم كان فيها من مظاهر الشرك الشيء الكثير ، فاعتذر عن حضور العيد بقوله: إني سقيم، وقوله هذا لم يفصح عن كنه السقم الذي اعتراه وتحدّث عنه، فهل هو سقيم بمرض ما؟ أو أنه سقيم بمعنى حزين عليهم بسبب ما يلتزمون به من أفكار ومعتقدات؟ ولم يفصح عن زمان هذا السقم، فهل هو حديث عن الحال، أم إنه حديث عن المستقبل؟ كما انهم حينما تولوا عنه مدبرين لم يفصح النص عن سبب توليهم هذا، فهل هو سبب المرض؟ أم بسبب اليأس من اشراكه بعيدهم واحتفالهم بأصنامهم وطقوسهم تجاهها؟ مما يبقي حديثه عن السقم في حال الابهام، ولهذا فلا نجد أي مبرر للحديث عن وجود مخالفة للواقع في ما تحدّث به ، خاصة وأن الآيات لم تلزم قارئها على الاعتقاد بأن الحديث قد تم في حال واحد. أما نظره في النجوم وما يبدو أنه عمل بالعادة التي جرى عليها كهنتهم وسحرتهم، فأوضح ما فيها ان الناظر إليها هو إبراهيم عليهالسلام نبي التوحيد، وطبيعة شخصه صلوات الله عليه قرينة واضحة على طبيعة النظر، فلا أقل ان النظر لن يكون على عادة أرباب الشرك وأصحابهم، هذا مع العلم ان الحديث لم يشخّص المراد بالنجوم، فهل هي حالة من حالات استشراف المستقبل؟ ولا قادح في ذلك، أم انه أراد بالنجوم حالة الأنواء وما يخبره الجو، لا سيما وأن ظاهر الحديث قد يوحي بأن الحديث كان نهاراً، فالقوم لا يخرجون إلى محلات الأعياد في الليل.
ويستمر الشيخ الصغير متحدثا عن عصمة النبي ابراهيم عليه السلام: أما حديثه في شأن تحطيم الأصنام وعزوه التحطيم لكبيرهم كما ورد في الآية الكريمة: "وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ * فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ * قَالُوا مَنْ فَعَلَ هذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ * قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ * قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ * قَالُوا أَ أَنْتَ فَعَلْتَ هذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ" (الانبياء 57-63)، وقد اعتبرها القوم ان قوله هذا هو كذبة واضحة من أجل الفرار من التبعات التي ستترتب على عملية التحطيم، ولكن ملاحظة ذلك وفقاً لشخصية إبراهيم عليه السلام ترد ذلك جملة وتفصيلاً، فما هو الذي يجبن أو يخاف على نفسه كما تحدّثنا به الآيات، فأي خوف سرى إليه وهو من قبل قد واجه بصلابة طغيان وتجبر نمرود؟ فلم لم يسر الخوف إليه آنذاك وسرى إليه الآن؟ مع العلم أن دواعي الخوف في تلك أقوى من دواعيه هنا، وأي عاقل يقبل أن يتهم الجماد في ما لا يقدر على فعله؟ إذن لا بد من التفتيش عن الموقف الحقيقي بعيداً عن ظاهر الكلام. ولهذا كان رد الفعل التلقائي وقوعهم في الحيرة التي جرتهم إلى أن يعترفوا أثناء مراجعة النفوس وتفكرها في جواب إبراهيم عليهالسلام وفقاً لما ذكر القرآن الكريم "فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ * ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هؤُلاَءِ يَنْطِقُونَ" (الانبياء 64-65) وقد كان منتظراً للجواب فراح يبلغ بكيده الهدف الذي خطط له سلفاً "قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلاَ يَضُرُّكُمْ * أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ" (الانبياء 66-67) ولهذا كانت ردة فعلهم المباشرة منصبة على نصر الآلهة التي وجدوها قد خضعت لمنطق المكيدة الإبراهيمية بشكل كامل، فأبرزوا واقع ضعفهم وعجزهم عن مجاراتها من خلال استخدامهم لمنطق القوة المادية "قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ" (الانبياء 68). وهذا المنطق الإبراهيمي المكائدي هو نفس المنطق الذي نجده في آيات سورة الأنعام "فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَىٰ كَوْكَبًا ۖ قَالَ هَٰذَا رَبِّي ۖ فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَٰذَا رَبِّي ۖ فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَٰذَا رَبِّي هَٰذَا أَكْبَرُ ۖ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ" (الانعام 76-78) التي تحدثت عن عبادة الكوكب والقمر والشمس، وهي الآيات التي دفعت القوم للإزراء بالشخصية التوحيدية لرائد التوحيد عليهالسلام وجعلتهم يصِمُونَه بما يبرأ الله ورسوله منه، ويظهرونه بمظهر السذاجة البلادة في فهم الأمور، ولا أنوي الدخول في تفاصيل ذلك، ولكن أجد نفس المنطق يتكرر، فترى في هذا المنطق إبراهيم عليهالسلام وهو يكيد للقوم الذي يعبدون هذه الكواكب يسوقهم لتسفيهها بشكل غير مباشر، ولكن مع الضغط النفسي عليهم كي يذعنوا لمسلماتهم العقلية التي قد تغيب في زحمة تراكمات الحياة، فليس هناك أفضل من البرهنة في الحجاج من أن ينطلق المبرهن من مشتركات عقلية لا يختلف بها مع من يحاججه، ولهذا خالطهم وجلس يتظاهر بالعبادة معهم وهو يترصد الفرصة للنيل من آلهتهم المزعومة، وقد استغل بحنكة حالة ضعف الممكنات، مرة من خلال ملاحقة مسألة غياب الكواكب وأفولها فالإله الحق لا يغيب، وأخرى مسألة تفاوتها في حجم الجسمية فالإله الحق لا يكبره شيء، ومن ثم ليبرز عجز هذه الكواكب على أن تمثل المقام الألوهي فهي عاجزة من البقاء وعاجزة عن أن تطاول بكبرها غيرها، فكيف تقوى على تلبية أغراض المتألهين.
https://telegram.me/buratha