الدكتور فاضل حسن شريف
قال الله تعالى عن الحرق ومشتقاته "قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ" ﴿الأنبياء 68﴾، و "فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ" ﴿العنكبوت 24﴾، و "أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ" ﴿البقرة 266﴾، و "لَّقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ ۘ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ" ﴿آل عمران 181﴾، و "وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا ۙ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ" ﴿الأنفال 50﴾.
قال الله تعالى "قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ" (البروج 4) الاخدود هو شق كبير يحفر في الأرض او يكون طبيعيا وخاصة في التضاريس الجبلية او المتموجة. وأصحاب الاخدود هم مجموعة ناس عديمي الضمير كما كان يفعل صدام وزمرته، لا رحمة لهم وقساة القلب يرمون المخالفين لهم في الرأي والعقيدة في أخدود ليموتوا فيه. فالاخدود يصبح مقبرة جماعية للمناوئين وعوائلهم من نساء وأطفال وهذا ما فعلته بالتمام والكمال صدام واعوانه، وهذا التفسير ذكره معظم المفسرين بشأن قصة أصحاب الاخدود في القرآن الكريم. وهنالك تفسير ضعيف بأن أصحاب الاخدود هم الابرياء الذين يقتلون في الاخدود، وهذا التفسير مردود لان الايات التالية تبين انهم قعود على طرف الاخدود و شهود على الابرياء كما كان يتمتع صدام وابنائه على الأفلام التلفزيونية التي تسجل لهم وأعوانه المشرفون على المقابر الجماعية حيث عمت بصيرتهم "إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ" (البروج 6) أي أن أصحاب الاخدود المجرمون قاعدون على طرف الاخدود و يشرفون على حرق الأبرياء. لم يذكر الله سبحانه في سورة البروج صاحب الاخدود وانما أصحاب الأخدود أي ان كل من شارك في جريمة المقابر الجماعية وشاهدها ورضي بها وساندها مشمولون بعذاب الله. فالملك الظالم بدون هؤلاء جميعا لم يستطع ان يقوم بفعلته.
عن الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل للشيخ ناصر مكارم الشيرازي: قوله تعالى "وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً" (طه 97). و هنا يأتي سؤالان: الأوّل: إنّ جملة "لَنُحَرِّقَنَّهُ" تدلّ على أنّ العجل كان جسما قابلا للاشتعال، و هذا يؤيّد عقيدة من يقولون: إنّ العجل لم يكن ذهبيّا، بل تبدّل إلى موجود حي بسبب تراب قدم جبرئيل. و نقول في الجواب: إنّ ظاهر جملة جَسَداً لَهُ خُوارٌ هو أنّ العجل كان جسدا لا روح فيه، كان يخرج منه صوت يشبه خوار العجل، بالطريقة التي قلناها سابقا. أمّا مسألة الإحراق فمن الممكن أن تكون لأحد سببين: أحدهما: إنّ هذا التمثال لم يكن ذهبيّا خالصا، بل يحتمل أن يكون من الخشب، ثمّ إلي بالذهب. و الآخر: إنّه على فرض أنّه كان من الذهب فقط، فإنّ إحراقه كان للتحقير و الإهانة و تعرية شكله الظاهري و إسقاطه، كما تكرّر هذا الأمر في تماثيل الملوك. في عيون أخبار الرضا، نقل حديث طويل حول "أصحاب الرس" خلاصته: إنّهم كانوا قوما يعبدون شجرة صنوبر يقال لها (شاه درخت) كان يافث بن نوح غرسها بعد الطوفان على شفير عين يقال لها (روشن آب) و كان لهم اثنتا عشرة قرية معمورة على شاطئ نهر يقال له الرسّ، يسمين بأسماء: آبان، آذر، دي، بهمن أسفندار، فروردين، أردي بهشت، خرداد، مرداد، تير، مهر، شهريور، و منها اشتقّ العجم أسماء شهورهم. و قد غرسوا في كل قرية منها من طلع تلك الصنوبرة حبّة. أجروا عليها نهرا من العين التي عند الصنوبرة، و حرّموا شرب مائها على أنفسهم و أنعامهم، و من شرب منه قتلوه، و يقولون: إنّه حياة الآلهة فلا ينبغي لأحد أن ينقص حياتها. و قد جعلوا في كل شهر من السنة يوما في كل قرية، عيدا، يخرجون فيه إلى الصنوبرة التي خارج القرية يقربون إليها القرابين و يذبحون الذبائح ثمّ يحرقونها في النار فيسجدون للشجرة عند ارتفاع دخانها و سطوعه في السماء و يبكون و يتضرعون، و الشيطان يكلمهم من الشجرة.
في كتابه نظرات معاصرة في القرآن الكريم يتحدث الشيخ جلال الدين الصغير عن عصمة النبي ابراهيم عليه السلام قائلا: أما حديثه في شأن تحطيم الأصنام وعزوه التحطيم لكبيرهم كما ورد في الآية الكريمة : (وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ * فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ * قَالُوا مَنْ فَعَلَ هذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ * قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ * قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ * قَالُوا أَ أَنْتَ فَعَلْتَ هذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ" (الانبياء 57-63)، وقد اعتبرها القوم ان قوله هذا هو كذبة واضحة من أجل الفرار من التبعات التي ستترتب على عملية التحطيم، ولكن ملاحظة ذلك وفقاً لشخصية إبراهيم عليه السلام ترد ذلك جملة وتفصيلاً، فما هو الذي يجبن أو يخاف على نفسه كما تحدّثنا به الآيات، فأي خوف سرى إليه وهو من قبل قد واجه بصلابة طغيان وتجبر نمرود؟ فلم لم يسر الخوف إليه آنذاك وسرى إليه الآن؟ مع العلم أن دواعي الخوف في تلك أقوى من دواعيه هنا، وأي عاقل يقبل أن يتهم الجماد في ما لا يقدر على فعله؟ إذن لا بد من التفتيش عن الموقف الحقيقي بعيداً عن ظاهر الكلام. ولهذا كان رد الفعل التلقائي وقوعهم في الحيرة التي جرتهم إلى أن يعترفوا أثناء مراجعة النفوس وتفكرها في جواب إبراهيم عليهالسلام وفقاً لما ذكر القرآن الكريم "فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ * ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هؤُلاَءِ يَنْطِقُونَ" (الانبياء 64-65) وقد كان منتظراً للجواب فراح يبلغ بكيده الهدف الذي خطط له سلفاً "قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلاَ يَضُرُّكُمْ * أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ" (الانبياء 66-67) ولهذا كانت ردة فعلهم المباشرة منصبة على نصر الآلهة التي وجدوها قد خضعت لمنطق المكيدة الإبراهيمية بشكل كامل، فأبرزوا واقع ضعفهم وعجزهم عن مجاراتها من خلال استخدامهم لمنطق القوة المادية "قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ" (الانبياء 68). وهذا المنطق الإبراهيمي المكائدي هو نفس المنطق الذي نجده في آيات سورة الأنعام "فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَىٰ كَوْكَبًا ۖ قَالَ هَٰذَا رَبِّي ۖ فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَٰذَا رَبِّي ۖ فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَٰذَا رَبِّي هَٰذَا أَكْبَرُ ۖ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ" (الانعام 76-78).
https://telegram.me/buratha