الدكتور فاضل حسن شريف
وعن الزمخشري يقول الاستاذ محمد حسين علي الصغير رحمه الله في كتابه الصوت اللغوي في القرآن: أوضح الزمخشري تبعاً للباقلاني أن في هذه الحروف من المهموسة نصفها وعدّدها ، ومن المجهورة نصفها وعدّدها ، ومن الشديدة نصفها وعدّدها ، ومن الرخوة نصفها وعدّدها ، ومن المطبقة نصفها وعددها ، ومن المنفتحة نصفها وعدّدها ، ومن المستعلية نصفها وعدّدها ، ومن المنخفضة نصفها وعدّدها ، ومن حروف القلقلة نصفها ، ويمكن جدولة هذه الحروف في منهج الزمخشري على النحو التالي: 1ـ الحروف المهموسة : الصاد ، الكاف ، الهاء ، السين ، الحاء. 2 ـ الحروف المجهورة : الألف ، اللام ، الميم ، الراء ، العين ، الطاء ، القاف ، الباء ، النون. 3 ـ الحروف الشديدة : الأف ، الكاف ، الطاء ، القاف. 4 ـ الحروف الرخوة : اللام ، الميم ، الراء ، الصاد ، الهاء ، العين ، السين ، الحاء ، الياء ، النون. 5 ـ الحروف المطبقة : الصاد ، الطاء. 6 ـ الحروف المنفتحة : الألف ، اللام ، الميم ، الراء ، الكاف ، الهاء ، العين ، السين ، الحاء ، القاف ، الياء ، النون. 7 ـ الحروف المستعلية : القاف ، الصاد ، الطاء. 8 ـ الحروف المنخفضة : الألف ، اللام ، الميم ، الراء ، الكاف ، الهاء ، الياء ، العين ، السين ، الحاء ، النون. 9 ـ حروف القلقلة : القاف ، الطاء. ورصد الزمخشري مواطن استعمال هذه الأصوات وكثرتها ، بحسب الجاري على ألسنة العرب في تكاثر بعض الحروف دون بعض ، وعرض لفائدة التكرار في جملة منها ، وتناول مسألة تفريقها على السور دون جمعها في أول القرآن ، وكأنه يشير إلى الحكمة المتوخاة من كل جانب فقال: (ومما يدل على أنه تعمد بالذكر من حروف المعجم أكثرها وقوعاً في تراكيب الكلم: أن الألف واللام لما تكاثر وقوعهما فيها جاءتا في معظم هذه الفواتح مكررتين، وهي: فواتح سورة البقرة، وآل عمران، والروم، والعنكبوت، ولقمان، والسجدة، والأعراف، والرعد، ويونس، وإبراهيم، وهود ويوسف ، والحجر. فإن قلت : فهلا عدّدت بأجمعها في أول القرآن، وما لها جاءت مفرقة على السور؟ قلت: لأن إعادة التنبيه على أن المتحدى به مؤلف منها لا غير، وتجديده في غير موضع واحد، أوصل إلى الغرض، وأقوله في الأسماع والقلوب، من أن يفرد ذكره مرة، وكذلك مذهب كل تكرير جاء في القرآن فمطلوب به تمكين المكرر في النفوس وتقريره. فإن قلت: فهلا جاءت على وتيرة واحدة، ولم اختلفت أعداد حروفها؟ قلت: هذا على عادة افتنانهم في أساليب الكلام وتصرفهم فيه على طرق شتى ومذاهب متنوعة، وكما أن أبنية كلماتهم على حرف وحرفين إلى خمسة أحرف لم تتجاوز ذلك ، سلك بهذه الفواتح ذلك المسلك.
وعن الزركشي يقول الدكتور محمد حسين علي الصغير: وتنبه الزركشي أيضاً إلى اشتمال سورة (ق) على ذات الحرف، لما في صوت القاف من القلقلة والشدة من جهة، ولاشتماله على الجهر والانفتاح من جهة أخرى. (وتأمل السورة التي اجتمعت على الحروف المفردة : كيف تجد السورة مبنية على كلمة ذلك الحرف، ممن ذلك "ق والقرآن المجيد" (ق 1) فإن السورة مبنية على الكلمات القافية : من ذكر القرآن، ومن ذكر الخلق ، وتكرار القول ومراجعته مراراً، والقرب من ابن آدم، وتلقي الملكين، وقول العتيد، وذكر الرقيب، وذكر السابق، والقرين، والإلقاء في جهنم، والتقدم بالوعد، وذكر المتقين، وذكر القلب، والقرآن، والتنقيب في البلاد ، وذكر القتل مرتين، وتشقق الأرض، وإلقاء الرواسى فيها، وبسوق النخل ، والرزق ، وذكر القوم ، وخوف الوعيد ، وغير ذلك). والحق أنني تتبعت سورة (ق) فوجدت ذكر هذا الحرف قد تكرر بعده أربعاً وخمسين مرة في خمس وأربعين آية زيادة على الحرف الاستفتاحي. فما هذا السر الصوتي لهذا الحرف؟ وما علاقة تسمية السورة به من خلال هذا البناء عليه؟ وما هو موقع القلقلة في القاف، والشدة في صوتها ، والجهر بأدائها ، والانفتاح عند نطقها بهذا التكرار في شتى الكلمات، مما ذكره الزركشي ومما لم يذكره. الجواب عن هذا وذاك بعد إدراك العناية الصوتية: الله أعلم. وأشار الزركشي إلى خصوصية للدلالة الصوتية في سورة (ص) للإبانة بهذا الحرف وصوتيته على أصداء الخصومات النازلة، والمحاكمات الشديدة الوقع، بما يتناسب واصطكاك الصاد في الحلحلة، وصداها الواقع على الأذن، واشتمالها على ما حدث من مجريات أحاديث السورة نفسها محاكاة في الأصوات الشديدة لما نشب من الأحداث الجسيمة، فقال مؤكداً وجهة نظره الصوتية، في تذوق الشدة والوقعة والخصومة من خلال صوت الصاد، ومصاقبته لما ورد في السورة ذاتها من إشارات موحية بذلك: (وإذا أردت زيادة إيضاح فتأمل ما أشتملت عليه سورة (ص) من الخصومات المتعددة، فأولها خصومة الكفار مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقولهم "أجعل الآلهة إلاهاً واحدًا" (ص 5) إلى آخر كلامهم. ثم أختصام الخصمين عند داود، ثم تخاصم أهل النار، ثم اختصام الملأ الأعلى في العلم، وهو الدرجات والكفارات، ثم تخاصم ابليس واعتراضه على ربه وأمره بالسجود، ثم اختصامه ثانياً في شأن بنيه، وحلفه ليغوينهم أجمعين إلا أهل الإخلاص منهم). وهكذا نجد الزركشي في تنبيهاته الصوتية سواء أكان ناقلاً لها، أم مجمعاً لشتاتها، أم مبرمجاً لخططها، أم مبتدعاً لبعضها، يؤكد العمق الصوتي لدى علماء العربية في إبراز حقيقة الصوت اللغوي فيما اتسمت به فواتح السور القرآنية ذات الحروف الهجائية المقطّعة.
وعن اعجاز القرآن يقول الدكتور الصغير رحمه الله: إن هذه الحروف تدعو العرب وتناديهم إشارة إلى إعجاز القرآن، فهذا القرآن الذي يتلوه عليكم محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومن جنس كلامكم وسنخ حروفكم، ومما يتكون منه معجمكم "وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهدآءكم من دون الله إن كنتم صادقين" (البقرة 23) قال أبو مسلم ، محمد بن بحر (ت: 370 هـ): (إن المراد بذلك بأن هذا القرآن الذي عجزتم عن معارضته ، ولم تقدروا على الإتيان بمثله، هو من جنس هذه الحروف التي تتحاورون بها في كلامكم وخطابكم، فحيث لم تقدروا عليه، فاعلموا أنه من فضل الله). أن هذه الحروف الهجائية في فواتح السور القرآنية طالما ورد بعدها ذكر القرآن أو الكتاب معظماً مفخماً، يتلوه الدليل على إعجازه ، والحديث عن الانتصار له، والإشارة إلى تحديه العالم والأمم والشعوب والقبائل، مما يؤيد حكمة هذه الأصوات لبيان إعجازه وكماله، وحسن نظمه وتأليفه، وسر بقائه وخلوده، كونه نازلاً من الله ، مستقراً في هذا المصحف الشريف، دون تصحيف أو تحريف، أو زيادة أو نقصان، ريادة في دوامه، وتعهداً بحفظه وسلامته، بما أكده الله تعالى "إنا نحن نزّلنا الذكر وإنا له لحافظون" (الحجر 9). إلا أن الملحظ الصوتي الذي نقف عنده للدلالة على التنبيه على صوتية هذه الحروف ، مع كونها إشارات إعجازية في بعض حكمها، الملحظ هذا: أنها تنطق كنطق كنطقك الأصوات، ولا تلفظ كلفظك الحروف، فتقول في قوله تعالى "ص" (صاد) صوتاً نطقياً، لا حرفاً مرسوماً (ص) أو (أص) وكذلك في قوله تعالى "ق" فإنك تقول (قاف) لا (ق) ولا (إق) وهكذا في الحروف الثنائية كقوله تعالى "طس" وفي الحروف الثلاثية كقول تعالى "ألم" وكذلك في الحروف الرباعية كقوله تعالى "ألمر" وكذلك في الحروف الخماسية كقوله تعالى "كهيعص" فكلها تنطق بأسماء تلك الحروف أصواتاً، لا بأشكالها الهجائية رسوماً، مما يقرب منها البعد الصوتي المتوخى، بينما كتبت في المصاحف على صورة الحروف لا صورة الأصوات. قال أمير المؤمنين الإمام علي عليهالسلام فيما ينسب إليه: (إن لكل كتاب صفوة ، وصفوة هذا الكتاب حروف التهجي) وتبقى التأويلات سابحة في تيارات هذه الحروف المتلاطمة، والتفسير الحق لها عند الله تعالى، ولا يمنع ذلك من كشف سيل الحكم والإشارات والتوجيهات، والملامح اللغوية بعامة، أو الصوتية المتخصصة، أو الإعجازية بخاصة في هذه الحروف، فهو ليس تفسيراً لها بملحظ أن التفسير هو الكشف عن مراد الله تعالى من قرآنه المجيد، بقدر ما هو إشعاع من لمحاتها، وقبس من أضوائها، يسري على هداه السالكون. "وما أوتيتم من العلم إلاّ قليلاً" (الاسراء 85) و "فوق كل ذي علم عليم" (يوسف 76).
https://telegram.me/buratha