الدكتور فاضل حسن شريف
يقول الاستاذ محمد حسين الصغير في كتابه الصوت اللغوي في القرآن عن أصول الأداء القرآني: لعل أقدم إشارة تدعو إلى التأمل في أصول الأداء القرآني، ما روي عن الإمام علي عليهالسلام في قوله تعالى "ورتّل القرآن ترتيلا" (المزمل 4). انه قال (الترتيل تجويد الحروف، ومعرفة الوقوف). وفي رواية ابن الجزري أنه قال (الترتيل معرفة الوقوف، وتجويد الحروف) ونقف عند هاتين الظاهرتين: معرفة الوقوف، وتجويد الحروف. الأول: الوقف، قال عبدالله بن محمد النكزاوي (ت: 683 هـ): (باب الوقف عظيم القدر جليل الخطر، لأنه لا يتأتى لأحد معرفة معاني القرآن، ولا استنباط الأدلة الشرعية منه إلا بمعرفة الفواصل) وهو بيان موضع الوقف عند الاستراحة لغرض الفصل، إذ لا يجوز الفصل بين كلمتين حالة الوصل، فتقف عند اللفظ الذي لا يتعلق ما بعده به، ويحدث غالباً عند آخر حرف من الفاصلة ، كما يحدث في سواه. وقد عرفه السيوطي (ت: 911 هـ) تعريفاً صوتياً فقال: (الوقف: عبارة عن قطع الصوت عن الكلمة زمناً يتنفس فيه عادة بنية استئناف القراءة لا بنية الإعراض ، ويكون في رؤس الآي وأوساطها، ولا يأتي في وسط الكلمة، ولا فيما اتصل رسماً). ولا يصح الوقف على المضاف دون المضاف إليه، ولا المنعوت دون نعته، ولا الرافع دون مرفوعه وعكسه، ولا الناصب دون منصوبه وعكسه، ولا إن أو كان أو ظن وأخواتها دون اسمها، ولا اسمها دون خبرها، ولا المستثنى منه دون الاستثناء، ولا الموصول دون صلته، اسمياً أو حرفياً، ولا الفعل دون مصدره، ولا حرف دون متعلقه، ولا شرط دون جزائه، كما يرى ذلك ابن الأنباري). وهذا التوقف عن الوقف قد لا يراد ببعضه التحريم الشرعي، وإنما المراد هو عدم الجواز في الأداء القرآني، مما تكون به التلاوة قائمة على أوصولها، والملحظ الصوتي متكاملاً في التأدية التامة لأصوات الحروف. والمقياس الفني لذلك: أن الكلام إذا كان متعلقاً بما بعده فلا يوقف عليه، وإن لم يكن كذلك فالمختار الوقوف عليه.
ويستطرد الدكتور الصغير رحمه الله عن الوقف قائلا: ولنأخذ كلمة (نعم) في موضعين من القرآن في حالتي الوقوف وعدمه: أ ـ قال تعالى "ونادى اصحاب الجنة اصحاب النار أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا قالوا نعم فأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين" (الاعراف 44). فالاختيار الفني الوقوف الطبيعي عند نعم، لأن ما بعدها غير متعلق بها، إذ ليس "فأذن مؤذن" في الآية من قول أهل النار. ب ـ وقال تعالى "أو ءاباؤنا الأولون * قل نعم وأنتم داخرون" (الصافات 17-18). فالاختيار الأدائي عدم الوقف عند "نعم" بل وصلها بما بعدها، لتعلقه بما قبلها ، وذلك لأنه من تمام القول وغير منفصل عنه. لذلك فقد عبر الزركشي عن الوقف بأنه (فن جليل، وبه يعرف كيف آداء القرآن، وبه تتبين معاني الآيات، ويؤمن الاحتراز عن الوقوع في المشكلات). وقد نقل السيوطي: أن للوقف في كلام العرب أوجهاً متعددة، والمستعمل منها عند أئمة القراء تسعة: السكون، والروم، والأشمام، والإبدال، والنقل، والأدغام، والحذف، والإثبات، والإلحاق. وهذه المفردات كلها مصطلحات فنية تتعلق بالصوت، وتنظر إلى التحكم فيه ، أو تعتمد على إظهار الصوت بقدر معين. فالسكون: عبارة عن ترك الحركة على الكلم المحركة وصلاً. والروم: النطق ببعض الحركة أو تضعيف الصوت بالحركة حتى يذهب أكثرها. والإشمام: عبارة عن الإشارة إلى الحركة من غير تصويت. والإبدال: فيما آخره همزة متطرفة بعد حركة أو ألف، فإنه يوقف بإبدالها حرف مد من جنس ما قبلها. والنقل: فيما آخره همزة بعد ساكن، فتنقل حركتها إليه ، فتتحرك بهاء ثم تحذف الهمزة. والإدغام: فيما آخره همزة بعد ياء أو واو زائدين، فإنه يوقف عليه بالإدغام بعد إبدال الهمز من جنس ما قبله. والحذف: إنما يكون في الياءات الزوائد عند من يثبتها وصلاً. والإثبات: في الياءات المحذوفات وصلاً عند من يثبتها وقفاً. والإلحاق: ما يلحق آخر الكلم من هاءات السكت عند من يلحقها. في: عم، وفيم، وبم، ومم. والنون المشددة مع جمع الإناث، نحو: هن ومثلهن. والنون المفتوحة، نحو العالمين، والدين، والمفلحون، والمشدد المبني، نحو: "ألا تعلو عليّ"، و "خلقت بيدي"، و "مصرخي" و "يديّ".
وعن مهمة الوقف في الأداء القرآني يقول الدكتور محمد حسين علي الصغير في كتابه: يأتي الوقف دون الوصل في وسط الآية، وضمن فقراتها، وعند فواصلها، ولما كان مبنى الفواصل القرآنية على الوقف في مختلف صورها مرفوعة ومجرورة ومنصوبة اسماً كانت أم فعلاً، مفرداً أم مثنى أم جمعاً، مذكراً ومؤنثاً ، فإن الوقف في مجالها متميز الأبعاد، ومتوافر العطاء، فقد عرضنا إليه في هذا الحقل للدلالة عليه فيما سواه مضافا الى ما تقدم في المبحث السابق، ففيه الغنية إلى موارده. شاع في فواصل الآيات القرآنية مقابلة المرفوع بالمجرور وبالعكس، وكذا المفتوح والمنصوب غير المنون، وقارن فيما يأتي: من الآيات، وهي تقف عند السكون صوتاً في غير الدرج ةإن كانت فواصلها متعاقبة على الرفع والجر أو الج والرفع من حيث الموقف الأعرابي، والرسم الكتابي: اولاً: مقابلة المجرور والمرفوع طرداً وانعكاساً والمجرور بالمفتوح: أ ـ قال تعالى "لا يَسَّمَّعون إلى الملإ الأعلى ويقذفون من كل جانب * دحورا ولهم عذاب واصب * إلا من خطف الخطفة فاتبعه شهاب ثاقب * فاستفتهم اهم اشد خلقا أم من خلقنا إنا خلقناهم من طين لازب" (الصافات 8-11). فالكلمة "جانب" وهي مجرورة في الفاصلة الأولى تتبعها "واصب" في الفاصلة الثانية، وهي مرفوعة. والكلمة "ثاقب" مرفوعها تتبعها في الفاصلة التي تليها "لازب" وهي مجرورة ، وقد جاءت الفواصل جميعها على نبرة صوتية واحد نتيجة الوقف عندها. ب ـ قال تعالى: ( ففتحنا أبواب السّماء بماء مّنهمر * وفجرنا الأرض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر * وحملناه على ذات ألواح ودسر * تجرى بأعيننا جزاء لمن كان كفر" (القمر 11-14). فالكلمة "منهمر" وهي مجرورة تبعتها في الفاصلة التي تليها "قدر" وهي مفتوحة. والكلمة "دسر" وهي مجرورة تبعتها في الفاصلة التي تليها "كفر" وهي مفتوحة، وقد تمت تسويتها الصوتية على وتيرة نغمية واحدة ضمن نظام الوقف في الفواصل فنطقت ساكنة. ج ـ وفي سورة الرعد، ورد اقتران المنون المجرور بالمنصوب، يليه المجرورغير المنون، في قوله تعالى: "وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مردّ له وما لهم من دونه من وال هو الذّى يريكم البرق خوفا وطمعا وينشىء السّحاب الثّقال * ويسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته ويرسل الصّواعق فيصيب بها من يشاء وهم يجادلون في الله وهو شديد المحال" (الرعد 11-13). فالكلمة "وال" منونة وهي مجرورة تبعتها في الفاصلة التي تليها "الثقال" وهي مفتوحة منصوبة، تليها "المحال" وهي مجرورة غير منونة. وبدت الآيات في تراصفها الصوتي مختتمة باللام الساكنة، دون تنوين أو فتح أو كسر بفصيلة الوقف.
https://telegram.me/buratha