الدكتور فاضل حسن شريف
تكملة للحلقة السابقة جاء في كتاب الصوت اللغوي في القرآن للدكتور محمد حسين علي الصغيرعن الوقف: ثانياً ولا تتحكم هذه القاعدة في الفواصل التي تلتزم حرفاً واحداً في أواخرها، كما في الأمثلة السابقة بل تتعداها إلى أجزاء أخرى من الفواصل، المختلفة الخواتيم، وقارن بين الآيات التالية الذكر: أ ـ ورد اقتران المجرور بالمرفوع المنوّن، واقتران المرفوع المنون بالمنصوب في قوله تعالى: "وجعلوا لله أندادا لّيضلّوا عن سبيله قل تمتّعوا فإنّ مصيركم إلى النّار * قل لّعبادى الّذين ءامنوا يقيموا الصلاة وينفقوا ممّا رزقناهم سرّا وعلانية مّن قبل أن يأتي يوم لاّ بيع فيه ولا خلال * الله الذى خلق السّماوات والأرض وأنزل من السّماء ماءً فأخرج به من الثمرات رزقا لّكم وسخّر لكم الفلك لتجرى في البحر بأمره وسخّر لكم الأنهار" (ابراهيم 30-32). فالألفاظ: "النار" وهي مجرورة دون تنوين، و "خلال" وهي مرفوعة منونة، و "الأنهار" وهي منصوبة مفتوحة، وقد تلاقت الكسرة والضمة والفتحة في سياق قرآني واحد، دون تقاطع النبر الصوتي، أو اختلاف النظام الترتيلي. ب ـ وقد جاء التنوين في حالة الجر إلى جنب الرفع غير المنون في فاصلتي قوله تعالى: "إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم ولا ينبئك مثل خبير * يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد" (فاطر 14-15). فالكلمتان "خبير" وهي مجرورة منونة مختتمة بالراء، اتبعتها في الفاصلة التي تليها "الحميد" وهي مرفوعة دون تنوين مختتمة بالدال، انسجما صوتياً مع اختلاف الفاصلة والهيأة نتيجة لهذا الوقف الذي قرب من الصوتين.
ويقول الدكتور محمد حسين علي الصغير عن فضل الوقف: ثالثاً: ولا يقف فضل الوقف على ما تقدم بل يظهر بمظهر جديد آخر في تقاطر العبارات وتناسقها ، وهي مختلفة في المواقع الإعرابية ، وكأنها في حالة إعرابية واحدة وإن لم تكن كذلك، نتيجة للصوت الواحد في الوقوف على السكون في آخر الفاصلة. أ ـ في سورة المدثر، يقترن المرفوع المنون، بالمجرور المنون، يليه المنصوب المنون، ولا تحس لذلك فرقاً في سياق واحد في قوله تعالى: "كأنهم حمر مستنفرة * فرّت من قسورة * بل يريد كل امرىء منهم أن يؤتى صحفا منشّرة" (المدثر 50-52). فالكلمات: "مستنفرة" مرفوعة منونة، تلتها "قسورة" مجرورة منونة ، تلتها "منشرة" منصوبة منونة، ولم تنطق صوتياً عند الوقف بكل هذه التفصيلات، بل وقفنا على الهاء. ب ـ وفي سورة القيامة يقترن الاسم المنصوب في الفاصلة بالظرف مع الاسم المجرور بسياق واحد متناسق يكاد لا يختلف في نبر، ولا يختلط في تنغيم ، قال تعالى "بلا قادرين علا أن نسوي بنانه * بل يريد الإنسان ليفجر أمامه * يسئل أيان يوم القيامة" (القيامة 4-6). فالألفاظ: "بنانه" مفعول به منصوب مضاف إلى الهاء، و "أمامه" ظرف مضاف إلى الضمير، و "القيامة" مجرورة مضاف إليه. وجاءت الأصوات متقاطرة بالهاء عند الوقف. أما الوقف في وسط الآية، وفي نهاية الجملة، وعند بعض الفقرات من الآيات، فإنه يخضع لقواعد إعرابية حيناً، وتركيبة حيناً آخر، وقد أشرنا إليها فيما سبق، ولا يترتب عليها كبير أمر في الأصوات، لهذا كانت الإشارة مغنية، وكان التفصيل في الوقف عند الفواصل لارتباطه بالصوت اللغوي.
وعن المماثلة يقول الدكتور الصغير رحمه الله: والمماثلة نوعان : رجعية وتقدمية ، وذلك بحسب كونها من الأمام إلى الخلف، أو من الخلف إلى الأمام. والنوع الأول هو الأكثر شيوعاً من الآخر مع أن كلاً منهما يمكن أن يحدث في لغة واحدة. والمماثلة الرجعية تنجم من تأثر الصوت الأول بالثاني في صيغة افتعل في نحو ( إذتكر) حينما تتفانى الذال والتاء، ويندكان تماماً ليحل محلهما الدال مشدداً، فتكون (إدّكر) في مثل قوله تعالى: "وادّكر بعد أمة" (يوسف 45) فقد تلاشى الصوت الأول وهو الذال في الصوت الثاني وهو التاء، وعادت التاء دالاً لقرب المخرج مع تشديدها لتدل على الاثنين معاً، وهذا هو تطبيق المماثلة في الادغام. (وتتخذ المماثلة صورة تقدمية فيما ينطقه بعض الناس للفظة (إجتمع) بـ (إجدمع) فالتاء قد جاورت الجيم مجاورة مباشرة ، فقد صوت التاء صفته كمهموس ، ليصبح مجهوراً في صورة نظيره الدال).
وعن علاقة الادغام بالممائلة يقول الاستاذ محمد حسين الصغير في كتابه: وعلى هذا فالإدغام عند العرب في نوعيه هو الأصل في المماثلة عند الأوروبيين، إذ يتغلب صوت أولي على صوت ثانوي، فالصوت الأولي هو الأقوى، لأنه المتمكن المسيطر على النطق، وأحياناً يحل محلهما معاً صوت ثالث مجاور يمثل الصوتين السابقين بعد فنائهما، وتلاشي أصدائهما كما في الابدال. وكان أبو عمرو بن العلاء (ت: 154 هـ) من أبرز القائلين به في القرآن الكريم وإليه ينسب القول المشهور: (الإدغام كلام العرب الذي يجري على ألسنتها ولا يحسنون غيره). وقد قال ابن الجزري عن عدد ما أدغمه أبو عمرو في القرآن: (جميع ما أدغمه أبو عمرو من المثلين والمتقاربين، ألف حرف وثلاثمائة وأربعة أحرف). والحق أن أبا عمرو بن العلاء قد توسع في الادغام حتى أنكروا عليه إدغامه الراء عند اللام في قوله تعالى: "يغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر لو كنتم تعلمون" (نوح 4) إذ قرأها يغفلكم. قال الزجاج: إنه خطأ فاحش، ولا تدغم الراء في اللام إذا قلت: (مرلي) بكذا، لأن الراء حرف مكرر، ولا يدغم الزائد في الناقص للإخلال به ، فأما اللام فيجوز إدغامه في الراء، ولو أدغمت اللام في الراء لزم التكرير من الراء. وهذا إجماع النحويين. وقال أبو عمرو بن العلاء بالادغام الكبير لشموله نوعي المثلين والجنسين والمتقاربين، ويعني بالمثلمين ما اتفقا مخرجاً وصفة، والمتجانسين ما اتفقا مخرجاً واختلفا صفة، وبالمتقاربين ما تقاربا مخرجاً وصفة.
https://telegram.me/buratha