الدكتور فاضل حسن شريف
عن ورود النون بعد حرف المد يقول الدكتور محمد حسين الصغير في كتابه الصوت اللغوي في القرآن : وورود النون بعد حروف المدّ متواكبة في القرآن حتى عاد ذلك سراً صوتياً متجلياً في جزء كبير من فواصل آيات سوره ، ونشير على سبيل النموذج الصوتي لكل حرف من حروف المدّ تليه النون بمثال واحد. 1 ـ وردت الألف مقترنة بالنون في منحنى كبير من فواصل سورة الرحمان على نحوين: الأول: وردهما متقاطرين، وهما أي الألف والنون من أصل الكلمات كما في قوله تعالى "الرحمن * علم القرءان * خلق الانسان * علّمه البيان * الشمس والقمر بحسبان" (الرحمن 1-5). الثاني: وردهما متقاطرين، وهما أي الألف والنون ملحقان بالكلمة علامة للرفع ودلالة على التثنية كما في قوله تعالى "مرج البحرين يلتقيان * بينهما برزخ لا يبغيان * فبأي ءالاء ربكما تكذبان" (الرحمن 19-21). ويتحقق في النحوين مدّ الصوت تحقيقاً للترنم. 2 ـ وردت الياء مقترنة بالنون في أبعاد كثيرة من فواصل الآيات القرآنية ، ففيما اقتص الله من خبر نوح عليهالسلام قال تعالى "فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك فقل الحمد الله الذي نجانا من القوم الظالمين * وقل رب أنزلني منزلا مباركاً وأنت خير المنزلين * إن في ذلك لأيات وإن كنا لمبتلين * ثم أنشأنا من بعدهم قرنًا ءاخرين" (المؤمنون 28-31). والطريف ان سورة المؤمنين تتعاقب وواصلها الياء والنون أو الواو والنون، شأنها في ذلك شأن جملة من سور القرآن، فكأنها جميعا تعنى بهذا الملحظ الدقيق. 3 ـ وردت الواو مقترنة بالنون في أجزاء عديدة ومتنوعة من فواصل طائفة كبيرة من السور، فسورة الشعراء فيها تعاقب كبير على الياء والنون مضافاً إليه التعاقب على الواو والنون موضع الشاهد كما في قوله تعالى "إن هؤلآء لشرذمة قليلون * وإنهم لنا لغائظون * وإنا لجميع حاذرون* فأخرجناهم من جنات وعيون" (الشعراء 54-57). إن ما أبداه الزركشي من ختم كلمة مقطع الفواصل بحروف المد واللين وإلحاق النون، ليس بالضرورة للتمكن من التطريب، ولكنه يشكل ظاهرة بارزة في صيغ تعامل القرآن الكريم مع هذه الحروف مقترنة بالنون، وقد يخفى علينا السبب، ويغيب عنا جوهر المراد، ومع ذلك فهو ملحظ متحقق الورود.
عن الإيقاع الصوتي في الفواصل يقول الاستاذ محمد حسين علي الصغير في كتابه: هناك سمات إيقاعية في سياق فواصل الآيات ، ومن خلال عبارات الجمل والفقرات التي ارتبطت بنسق جمهرة من آيات القرآن المجيد، نجم عنهما كثير من الاشكال في التفسير لوجودها مجارية لزنة جملة من بحور الشعر، وبدأ محرّرو علوم القرآن، يتصدرون للدفاع عن ذلك حيناً، ولتفسيره كلامياً واحتجاجياً بلغة الجدل حيناً آخر، ولو أنهم عمدوا إلى ربط مثل هذه الظواهر بالإيقاع الصوتي لكان ذلك رداً مفحماً، ولو فسروها صوتياً لارتفع الإشكال وتلاشى. القرآن كلام الله فحسب، ليس من جنس النثر في صنوفه وإن اشتمل على ذروة مميزاته العليا، ولم يكن ضرباً من الشعر وإن ضم بين دفتيه أوزان الشعر جميعاً "وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون * ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون * تنزيل من رب العالمين" (الحاقة 41-43). فهو ليس من سنخ ما يتقولون، ولا بنسيج ما يتعارفون، ارتفع بلفظه ومعناه، وطبيعته الفنية الفريدة، عن مستوى الفن القولي عند العرب، فالمقولة بأنه شعر باطلة من عدّة وجوه: الأول: التـأكيد في القرآن نفسه بنفي صفة الشعر عنه ، والتوجيه بأنه ذكر وقرآن مبين بقوله تعالى "وما علّمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقرءان منين" (يس 69). الثاني: الردّ في القرآن على دعوى القول بأن النبي شاعر ، وأن القرآن منه في ثلاثة مواطن 1ـ الملحظ الافترائي الموجه إليه ، والمعبر عن حيرة المشركين "بل قالوا اضغاث احلام بل افتراه بل هو شاعر فليأتنا بأية كما أرسل الأولون" (الانبياء 5). 2 ـ التعصب الأعمى للآلهة المزعومة دون وعي ، وبكل إصرار بافتعال الادعاء الكاذب "ويقولون أئنا لتاركوا ءالهتنا لشاعر مجنون" (الصافات 36). 3 ـ التربص بالنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم وتوقع الموت له ، بزعمهم أن سيموت شعره المفترض معه "أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون" (الطور 30). الثالث: إن العرب لو اعتقدوا أن القرآن شعر لأسرعوا إلى معارضته من قبل شعرائهم، فالشعر ديوان العرب، وقصائدهم معلقة بالكعبة تعبيراً عن اعتدادهم بالشعر، واعتزازهم بالشعراء، وهم أئمة البيان ورجال الفصاحة، ولكنها مغالطة واضحة (ولو كان ذلك لكانت النفوس تتشوق إلى معارضته، لأن طريق الشعر غير مستصعب على أهل الزمان الواحد، وأهله يتقاربون فيه، أو يضربون فيه بسهم). الرابع: إن الشعر إنما يقصد إليه بذاته فينظم مع إرادة ذلك، ولا يتفق اتفاقاً أن يقول أحدهم كلاماً فيأتي موزوناً، فالشعر (إنما ينطلق متى قصد إليه على الطريق التي تعمد وتسلك، ولا يصح أن يتفق مثله إلا من الشعراء دون ما يستوي فيه العامي والجاهل والعالم بالشعر واللسان وتصرفه، وما يتفق من كل واحد، فليس بشعر فلا يسمى صاحبه شاعراً، وإلا لكان الناس كلهم شعراء، لأن كل متكلم لا ينفك أن يعرض في جملة كلامه ما يتزن بوزن الشعر وينتظم بانتظامه). سقنا هذا في حيثية تنزيه القرآن عن سمة الشعر وصفته ، لأنه قد وجد فيه ما وافق شعراً موزوناًهذا الشعر الذي تتفاخرون بهالقرآن يريد أن ينحو الشاعر بشعره منحى الحق والصرامة والفضيلة والصدق ، ومع هذا وذاك فما ورد من الموزون فيه جار على سنن العرب في كلامها الموزون ضمن المنثور"يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم" (الحج 1). فقال كسرت، إنما قال: يـا أيـها النـاس اتـقوا ربـكم زلـزلـة الـسـاعة شـيء عـظـيم. فقيل له: هذا القرآن، وليس الشعر. فاعتقده لأول مرة شعراً فحذف (أن) ليستقيم الوزن فيما عنده. ولو قلنا بالإيقاع الصوتي، وفسرنا الورود البياني لهذا المظهر الموزون بمجانسة الأصوات، وقارنّا عن كثب بمناسبة الصوت للصوت، وملاءمة النطق بالحروف، ومتابعة الأذن للموسيقى، والسمع للنبر والتنغيم، زيادة على ما تقدم لكنا قد أحسنّا التعليل فيما يبدو، أو توصلنا في الأقل إلى بعض الوجوه المحتملة، أو الفوائد الصوتية المترتبة على هذا المعلم الواضح ، والله أعلم.
ويستطرد الدكتور الصغير رحمه الله قائلا عن عن الإيقاع الصوتي في الفواصل: وقد يقال بأن هذا المعلم إنما ينطبق على أجزاء من الآيات لا الفاصلة وحدها، فيقال حينئذ بأن وجود الفاصلة في هذه الأجزاء من الآيات هو الذي جعل جملة هذا الكلام موزوناً، فبدونها ينفرط نظام هذا السلك، وينحل عقد هذا الابرام لهذا نسبنا أن يكون الحديث عن هذا الملحظ ضمن هذا البحث. ومهما يكن من أمر، فإن ورود ما ورد من هذا القبيل في القرآن ينظر فيه إلى غرضه الفني مضافاً إلى الغرض التشريعي، وهما به متعانقان. إننا بين يدي مخزون ثر في هذا الرصد، ننظره وكأننا نلمسه، ونتحسسه وكأننا نحيا به، فحينما نستمع خاشعين إلى صيغة موزونة منتظمة بقوله تعالى "إنّا اعطيناك الكوث" (الكوثر 1). فإننا نتعامل مع وقع خاص بذكرنا بالعطاء غير المحدود للنبي الكريم، وحينما نستمع موزوناً إلى قوله تعالى "هيهات هيهات لما توعدون" (المؤمنون 36). تصك أسماعنا بلغة الوعيد، فنخشع القلوب، وتتحسس الأفئدة. وحينما نستمع موزوناً إلى قوله تعالى "وذلّلت قطوفها تذليلاً " (الانسان 14). نستبشر من الأعماق بهذا المناخ الهادي، ونستشعر هذا النعيم السرمدي بإيقاع يأخذ بمجامع القلوب، ويشد إليه المشاعر. وحينما نستمع موزوناً إلى قوله تعالى "تبت يدآ أبي لهب" (المسد 1). يقرع أسماعنا هذا المصير الشديد العاتي، فيستظهره السامع دون جهد، ويجري مجرى الأمثال في إفادة عبرتها وحجتها. وحينما نستمع حالمين إلى قوله تعالى "ومن الليل فسبحه وأدبار السّجود " (ق 40). فإننا نستشعر هذا الأمر بقلوبنا قبل الأسماع ، هادئاً ناعماً متناسقاً ، وهو يدعو إلى تسبيح الله وتقديسه آناء الليل وأطرف النهار. وحينما نستمع إلى قوله تعالى "نصر من الله وفتح قريب" (الصف 13). فإن العزائم تهب على هذا الصوت المدوي، بإعلان النصر لنبيه، والفتح أمام زحفه ، فتعم البشائر ، وتتعالى البهجة. وحينما نستمع إلى قوله تعالى "لن تنالوا البّر حتا تنفقوا ممّا تحبّون" (ال عمران 92). فالصوت الرفيق هذا يمس الاسماع مساً رفيقاً حيناً ، ويوقظ الضمائر من غفلتها حيناً آخر، وهو يستدر كرم المخائل، ويوجه مسيرة التعاطف، ويسدد مراصد الانفاق، والمسلم الحقيقي يسعى إلى البر الواقعي فأين مواطنه؟ إنه الانفاق مما يحب، والعطاء مما يحدب عليه، والفضل بأعز الأشياء لديه، وبذلك ينال البر الذي ما فوقه بر. وحينما نستمع إلى قوله تعالى "أرءيت الذي يكذب بالدين * فذلك الذي يدع اليتيم" (الماعون 1-3). وتمد الفتحة لتكون ألف إطلاق، وتصبح في غير القرآن (اليتيما) فإنك تقف عند بحر الخفيف من الشعر، تقف عند صرخة مدوّية، وجلجلة متأججة تقارن بين التكذيب بيوم القيامة، وبين دع اليتيم في معاملته بخشونة وصده بجفاف وغلظة. هذه النماذج الخيرة التي تبركنا بإيرادها، والتي تنبه من الغفوة والغفلة، وتدفع إلى الاعتبار والعظة، وتزيد من البصيرة والتدبر، قد أضفى عليها الملحظ الصوتي موسيقاه الخاصة، فعاد القول بصوتيتها من جملة أسرارها الجمالية، والتأكيد على تناغمها الإيقاعي من أبرز ملامحها الفنية. هذه ميزة ناصعة من مزايا فواصل الآيات باعتبار العبارات.
https://telegram.me/buratha