الصفحة الإسلامية

اشارات قرآنية من كتاب تأريخ القرآن للدكتور الصغير (ح 1)


الدكتور فاضل حسن شريف

جاء في کتاب تأريخ القرآن للدكتور محمد حسين علي الصغير عن وحي القرآن: في المدينة المنورة حيث العدد والعدة، والنصرة والفداء، نلمس إيحاء قرآنياً بنقطتين مهمتين: الأولى: مواجهته للمنافقين وتحركهم جهرة وخفاء، وتذبذبهم إزاء الرسالة بين الشك المتمادي، والتصديق الكاذب، يصافحون أهل الكتاب تارة، ويوالون مشركي مكة تارة أخرى، حتى ضاق بهم ذرعا، ونهاهم القرآن الكريم عن التردي في هذه الهاوية مراراً وتكراراً، وهددهم بالاستئصال والتصفية بعض الأحيان، ولم ينقطع كيدهم، فمثلوا ثورة مضادة داخلية، تفتك بالصفوف وتفرق الجموع، لولا الوقوف في نهاية الأمر بوجه ترددهم الخائف، وهزائمهم المتلاحقة، إثر ما حققه الإسلام من انتصارات في غزواته وحروبه الدفاعية، إلا أن جذوتهم بقيت نارا تحت رماد، وعاصفة بين الضلوع، تخمد تارة وتهب أخرى. الثانية: مجابهته للفضوليين، الذين كانوا يأخذون عليه راحته، ويزاحمونه وهو في رحاب بيته، بين أفراد عائلته وزوجاته، فينادونه باسمه المجرد، ويطلبون لقاءه دون موعد مسبق، بما عبر عنه القرآن بصراحة: "إنَّ الّذينَ ينادونَكَ من ورآءِ الحجراتِ أكثرهُمْ لا يعقلونَ" (الحجرات 4). واستأثر البعض من هؤلاء وغيرهم بوقت القائد ، فكانت الثرثرة والهذر، وكان التساؤل والتنطع، دون تقدير لملكية هذا الوقت، وعائدية هذه الشخصية، فحد القرآن من هذه الظاهرة، واعتبرها ضربا من الفوضى، وعالجها بوجوب دفع ضريبة مالية تسبق هذا التساؤل أو ذاك الخطاب، فكانت آية النجوى "يأيّهَا الذينَ آمنُوا إذا ناجيتُمُ الرّسولَ فقدِّمُوا بينَ يَدَي نجواكُمْ صدقةً ذلكَ خيرٌ لكم وأطهرُ فإن لم تجدُوا فإنَّ اللهَ غفورٌ رحيمٌ" (المجادلة 12). وكان لهذه الآية وقع كبير، فامتنع الأكثرون عن النجوى، وتصدق من تصدق فسأل ووعى وعلم، وانتظم المناخ العقلي بين يدي الرسول الأعظم صلى‌ الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم فكفّ الفضول، وتحددت الأسئلة، ليتفرغ النبي صلى ‌الله‌ عليه ‌وآله ‌وسلم للمسؤولية القيادية. ولما وعت الجماعة الإسلامية مغزى الآية، وبلغ الله منها أمره، نسّخ حكمها ورُفع، وخفف الله عن المسلمين بعد شدة مؤدبة، وفريضة رادعة، وتأنيب في آية النسخ: "ءأشفقتُمْ أن تقدّمُوا بينَ يدَيْ نجواكُمْ صدقاتٍ فإذ لم تفعلُوا وتابَ اللهُ عليكُمْ فأقيمُوا الصلاةَ وءاتُوا الزّكاةَ وأطيعُوا اللهَ ورسولَهُ واللهَ خبيرُ بما تعلمونَ" (المجادلة 13). لم يكن النبي صلى‌ الله‌ عليه‌ وآله ‌وسلم بدعا من الرسل، ولم يختص بالوحي دونهم، بل العكس هو الصحيح، فقد شاركهم هذه الظاهرة، وقد أوحي إليه كما أوحي إليهم من ذي قبل، قال تعالى: "إنّا أوحينَا إليكَ كما أوحينَا إلى نوحٍ والنّبييّن من بعده وأوحينَا إلى إبراهيمَ وإسماعيلَ وإسحاقَ ويعقوبَ والأسباطِ وعيسى وأيّوبَ ويونسَ وهارونَ وسليمانَ وءاتينَا داوودَ زبوراً * ورسلاً قَدْ قصصناهُم عليكَ من قبلُ ورسلاً لم نقصصهُمْ عليكَ وكلَّمَ الله موسى تكليماً" (النساء 163-164). فقد هدفت الآية وما بعدها إلى بيان حقيقة الوحي الشاملة للأنبياء عليهم ‌السلام كافة، ممن اقتص خبرهم وممن لم يقتص، وإيثار موسى بالمكالمة وحده.

ويستطرد الدكتور الصغير رحمه الله عن وحي القرآن قائلا: ويوحي الله عز وجل لملك الوحي، ما يوحيه الملك إلى النبي صلى ‌الله‌ عليه ‌وآله‌ وسلم عن الله ، ويتسلم النبي صلى‌ الله‌ عليه ‌وآله ‌وسلم الوحي، فالوحي واحد هنا مع تقاسم المسؤولية، وهو عام بالنسبة لكل الأنبياء، وخاص بالنسبة لوحي القرآن ايضا، فالملك يؤدي عن الله لمحمد، ومحمد يتلقى ذلك الوحي من الملك، ويؤدي ما يوحي به إليه إلى الناس، وكان ذلك طريق الوحي القرآني فحسب، وقد صرح به القرآن الكريم بقوله تعالى "وإنّهُ لتنزيلُ ربِّ العالمينَ * نزلَ بهِ الرّوحُ الأمينُ * على قلبكَ لتكونَ من المنذرينَ" (الشعراء 192-194). والروح الأمين هو جبرائيل عليه‌ السلام بإجماع الأمة والروايات، قال طبرسي (ت: 548 ه‌): (يعني جبرائيل عليه‌ السلام، وهو أمين الله لا يغيره، ولا يبدله لأن الله تعالى يُسمِعه جبرائيل عليه ‌السلام فيحفظه، وينزل به على الرسول ويقرأه عليه، فيعيه ويحفظه بقلبه، فكأنه نزل به على قلبه). صرّحت الآية التالية "ومَا كانَ لبشرٍ أن يكلّمهُ الله إلا وحياً أو من ورآئ حجابٍ أو يرسِلَ رسولاً فيوحِيَ بإذنِهِ مَا يشاءُ إنَّهُ عليٌّ حكيمٌ" (الشورى 51) بطرق الوحي الإلهي، وحددت كيفية هذا الوحي، ومراتب إيصاله. نسب إلى النبي صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله ‌وسلم أنه قال (إن روح القدس نفث في روعي). سماع كلام الله تعالى مباشرة من وراء حجاب دون معاينة أو رؤية ، لامتناع ذلك عقلاً وشرعاً، كما كلم الله موسى بن عمران عليه‌ السلام "وكلَّمَ اللهُ موسَى تكليماً" (النساء 164). وكان ذلك من وراء حجاب (وهو أن يحجب ذلك الكلام عن جميع خلقه إلا من يريد أن يكلمه به نحو كلامه لموسى عليه‌ السلام لأنه حجب ذلك عن جميع الخلق إلا عن موسى عليه ‌السلام وحده، لأن الحجاب لا يجوز إلا على الأجسام المحدودة).

وعن الأصناف والمراتب في الإيحاء يقول الاستاذ محمد حسين الصغير: هذه الأصناف والمراتب في الإيحاء حددتها الآية الكريمة السابقة فيما يتعلق بوحي الأنبياء عليهم ‌السلام كما يبدو، إلا أننا من متابعة هذه الظاهرة في القرآن الكريم، لاحظنا بعض الدلالات الإيحائية لهذا التعبير قد تختلف عما تقدم، ويمكن الإشارة إلى أهمها بما يلي: أ ـ الإلهام، وهو أن يلقي الله تعالى في النفس أمراً يبعث على الفصل أو الترك، وهو نوع من الوحي، يخص به الله من يشاء من عباده، غير قابل للتفكير به، أو التخطيط له مسبقاً، ليفرق بينه وبين الحالات اللاشعورية من جهة، والسلوك الكسبي من جهة أخرى، كما يدل على ذلك قوله تعالى "وأوحينَا إلى أمِّ موسَى أنْ أرضعيهِ " (القصص 7). وقوله تعالى "إذ أوحينَا إلى أمّكَ مَا يوحَى" (طه 38). ب ـ التسخير، وهو أن يسخر الله تعالى بعض مخلوقاته إلى عمل ما، بهديه وإشاءته وتسخيره، بشكل من الأشكال التي لا تستوعبها بعض مداركنا احياناً، ويستيقنها الذين آمنوا دون أدنى شبهة، كما يدل على هذا النوع قوله تعالى "وأوحَى ربُّكَ إلى النَّحْلِ أنِ اتخذِى منَ الجبالِ بيوتاً" (النحل 68). ج ـ الرؤيا الصادقة، وهي وحي إلهي بالنسبة للأنبياء عليهم ‌السلام خاصة، يتلقون فيها الأوامر، ويتسلمون التعليمات من السماء، كما دل على ذلك قوله تعالى فيما اقتص الله من خبر إبراهيم عليه ‌السلام مع ولده "فلمّا بلغَ معهُ السّعيَ قال يا بنيَّ إني أرى في المنام أني أذبحكَ فانظُرْ ماذا تَرَى قال يا أبَتِ افعَلْ ما تؤمَرُ ستجدني إنْ شاءَ اللهُ من الصّابرينَ * فلمّا أسلَمَا وتلّهُ للجبينِ * وناديناهُ أن يا إبراهيمُ * قدْ صدّقْتَ الرُّؤيَا إنّا كذلِكَ نجزي المحسنينَ" (الصافات 102-105). فأشارت الآيات إلى الرؤيا الصادقة في المنام، وإلى استفادة إبراهيم عليه ‌السلام وولده عليهما ‌السلام، الأمر الإلهي فيها، للدلالة على أنها وحي يستلزم العمل به، بدليل تعقيب ذلك من قبل الله في خطاب إبراهيم عليه ‌السلام بتصديق الرؤيا وجزاء المحسنين. وقد تكون الرؤيا في جزء من هذا الملحظ تمهيدا للوحي المباشر، وقد يعبر عنها بالصادقة أو الصالحة، كما حصل هذا المعنى بالنسبة لرسول الله صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم أول بدء الوحي، كما في رواية أم المؤمنين عائشة: (أول ما بدئ به رسول الله من الوحي الرؤيا الصادقة (الصالحة) في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح). وقد تكون الرؤيا نوعا من الوعد الحق الذي يقطعه الله لنبيه عليه ‌السلام كما هو الحال في شأن فتح مكة ، قال تعالى "لقدْ صَدَقَ اللهُ رسولَهُ الرُّءيَا بالحقِّ لتدخلُنَّ المسجِدَ الحرامَ إن شآءَ اللهُ ءامنينَ" (الفتح 27).

ويستطرد الدكتور محمد حسين الصغبر عن الأصناف والمراتب في الإيحاء قائلا: وقد دل على جميع ما تقدم مضافاً لللالات القرآنية ما يروى عنه صلى ‌الله‌ عليه ‌وآله‌ وسلم: (انقطع الوحي، وبقيت المبشرات: رؤيا المؤمن، فالإلهام، والتسخير والمنام). وفيه إذا صح تفريق بين الوحي المباشر، وهو جبرائيل عليه ‌السلام، وبين ما أشار إليه من المبشرات التي يبدو أنها غير الوحي الذي يريده الرسول الأعظم صلى ‌الله‌ عليه ‌وآله ‌وسلم في الحديث. وقد يكون الوحي بملحظ آخر عاماً بين جميع الأنبياء والرسل، وقد يكون خاصاً بالنبي صلى‌ الله‌ عليه ‌وآله‌ وسلم، فما كان عاماً يكون مشتركاً بينه وبين الأنبياء والمرسلين لأنه أحدهم بل سيدهم، وما كان خاصاً ينفرد به وحده. فالأول : كقوله تعالى "ومَا أرْسلنَا مِن قبلِكَ من رَّسُولٍ إلا نوحِي إليهِ أنّهُ لا إلهَ إلا أنا فاعبُدُونِ" (الانبياء 25). ويبدو أن هذا الوحي يشتمل على جميع أقسام الوحي وكيفياته ، ولا يختص بالايحاء بمعناه الدقيق، لأن الإيمان بالوحدانية فطرة إنسانية تحتمها طبيعة العقل السوي، والأنبياء بعامة يتمتعون بهذه الفطرة نفسياً وعقلياً. قال الراغب الأصبهاني (ت: 502 ه‌): (هذا الوحي هو عام في جميع أنواعه، وذلك أن معرفة وحدانية الله تعالى، ومعرفة وجوب عبادته ليست مقصورة على الوحي المختص بأولي العزم من الرسل، بل يعرف ذلك بالعقل والإلهام كما يعرف بالسمع، فإذن المقصود من الآية تنبيه أنه من المحال أن يكون رسول لا يعرف وحدانية الله، ووجوب عبادته). والثاني: ما هو مختص بالنبي صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم وحده، كالأمر له في قوله تعالى "اتَّبِعْ ما أوحِيَ إليكَ مِن رَّبِّكَ لا إلهَ إلا هُوَ" (الانعام 106). وكأخباره عن نفسه، محكيا بقوله تعالى "إنْ أتّبِعُ إلا ما يُوحَى إليّ ومَا أنا إلا نذيرٌ مُّبينٌ" (الاحقاف 9) وكالطلب إليه بقوله تعالى "قُلْ إنما أنا بشرٌ مثلُكُْم يُوحَى إليّ أنما إلهكُمُ إلَهٌ واحِدٌ" (الكهف 110).

اشترك في قناة وكالة انباء براثا على التلجرام
https://telegram.me/buratha
اضف تعليقك
الاسم والنص والتحقق من الروبوت ضروري
آخر الاضافات
الاسعار الرسمية للعملات مقابل الدينار
دينار بحريني 0
يورو 0
الجنيه المصري 0
تومان ايراني 0
دينار اردني 0
دينار كويتي 0
ليرة لبنانية 0
ريال عماني 0
ريال قطري 0
ريال سعودي 0
ليرة سورية 0
دولار امريكي 0
ريال يمني 0
التعليقات
حيدر الاعرجي : دوله رئيس الوزراء المحترم معالي سيد وزير التعليم العالي المحترم يرجى التفضل بالموافقه على شمول الطلبه السادس ...
الموضوع :
مجلس الوزراء : موقع الكتروني لإستقبال الشكاوى وتقديم التعيينات
سهام جاسم حاتم : احسنتم..... الحسين بن علي بن أبي طالب عليهما السلام.جسد اعلى القيم الانسانية. لكل الطوائف ومختلف الاقوام سواء ...
الموضوع :
الحسين في قلب المسيح
Muna : بارك الله فيكم ...احسنتم النشر ...
الموضوع :
للامام علي (ع) اربع حروب في زمن خلافته
الحاج سلمان : هذه الفلتة الذي ذكرها الحاكم الثاني بعد ما قضى نبي الرحمة (ص) أعيدت لمصطفى إبن عبد اللطيف ...
الموضوع :
رسالة الى رئيس الوزراءالسابق ( الشعبوي) مصطفى الكاظمي
فاديه البعاج : اللهم صلي على محمد وال محمد يارب بحق موسى ابن جعفر ان تسهل لاولادي دراستهم ونجاح ابني ...
الموضوع :
صلاة الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) لقضاء الحوائج
محمد الخالدي : الحمد لله على سلامة جميع الركاب وطاقم الطائرة من طيارين ومضيفين ، والشكر والتقدير الى الطواقم الجوية ...
الموضوع :
وزير النقل يثني على سرعة التعاطي مع الهبوط الاضطراري لطائرة قطرية في مطار البصرة
Maher : وياريت هذا الجسر يكون طريق الزوار ايضا بأيام المناسبات الدينية لان ديسدون شارع المشاتل من البداية للنهاية ...
الموضوع :
أمانة بغداد: إنشاء أكبر مجسر ببغداد في منطقة الأعظمية
ساهر اليمني : الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ...
الموضوع :
السوداني : عاشوراء صارت جزءا من مفهومنا عن مواجهة الحق للباطل
هيثم العبادي : السلام عليكم احسنتم على هذه القصيدة هل تسمح بقرائتها ...
الموضوع :
قصيدة الغوث والامان = يا صاحب الزمان
فيسبوك