الدكتور فاضل حسن شريف
قال الله تعالى عن عداوة "لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا ۖ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَىٰ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ" ﴿المائدة 82﴾ عداوة اسم، عَداوةً: أشد بغضاً، لتجدنَّ أيها الرسول أشدَّ الناس عداوة للذين صدَّقوك وآمنوا بك واتبعوك، اليهودَ؛ لعنادهم، وجحودهم، وغمطهم الحق، والذين أشركوا مع الله غيره، كعبدة الأوثان وغيرهم، ولتجدنَّ أقربهم مودة للمسلمين الذين قالوا: إنا نصارى، ذلك بأن منهم علماء بدينهم متزهدين وعبَّادًا في الصوامع متنسكين، وأنهم متواضعون لا يستكبرون عن قَبول الحق، وهؤلاء هم الذين قبلوا رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وآمنوا بها، و "وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ۚ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ" ﴿فصلت 34﴾ ولا تستوي حسنة الذين آمنوا بالله، واستقاموا على شرعه، وأحسنوا إلى خلقه، وسيئة الذين كفروا به وخالفوا أمره، وأساؤوا إلى خلقه. ادفع بعفوك وحلمك وإحسانك مَن أساء إليك، وقابل إساءته لك بالإحسان إليه، فبذلك يصير المسيء إليك الذي بينك وبينه عداوة كأنه قريب لك شفيق عليك. وما يُوفَّق لهذه الخصلة الحميدة إلا الذين صبروا أنفسهم على ما تكره، وأجبروها على ما يحبه الله، وما يُوفَّق لها إلا ذو نصيب وافر من السعادة في الدنيا والآخرة، و "وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَىٰ أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ۚ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ" ﴿المائدة 14﴾ الْعَدَاوَةَ: الْ اداة تعريف، عَدَاوَةَ اسم، وأخذنا على الذين ادَّعوا أنهم أتباع المسيح عيسى وليسوا كذلك العهد المؤكد الذي أخذناه على بني إسرائيل: بأن يُتابعوا رسولهم وينصروه ويؤازروه، فبدَّلوا دينهم، وتركوا نصيبًا مما ذكروا به، فلم يعملوا به، كما صنع اليهود، فألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة، وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون يوم الحساب، وسيعاقبهم على صنيعهم، و "وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ " ﴿المائدة 64﴾ وَ ألْقَيْنا بَيْنَهُم العَداوةَ: الخصومات واقعة بين فرقهم، يُطلع الله نَبِيَّه على شيء من مآثم اليهود وكان مما يُسرُّونه فيما بينهم أنهم قالوا: يد الله محبوسة عن فعل الخيرات، بَخِلَ علينا بالرزق والتوسعة، وذلك حين لحقهم جَدْب وقحط. غُلَّتْ أيديهم، أي: حبست أيديهم هم عن فِعْلِ الخيرات، وطردهم الله من رحمته بسبب قولهم. وليس الأمر كما يفترونه على ربهم، بل يداه مبسوطتان لا حَجْرَ عليه، ولا مانع يمنعه من الإنفاق، فإنه الجواد الكريم، ينفق على مقتضى الحكمة وما فيه مصلحة العباد. وفي الآية إثبات لصفة اليدين لله سبحانه وتعالى كما يليق به من غير تشبيه ولا تكييف. لكنهم سوف يزدادون طغيانًا وكفرًا بسبب حقدهم وحسدهم؛ لأن الله قد اصطفاك بالرسالة. ويخبر تعالى أن طوائف اليهود سيظلون إلى يوم القيامة يعادي بعضهم بعضًا، وينفر بعضهم من بعض، كلما تآمروا على الكيد للمسلمين بإثارة الفتن وإشعال نار الحرب ردَّ الله كيدهم، وفرَّق شملهم، ولا يزال اليهود يعملون بمعاصي الله مما ينشأ عنها الفساد والاضطراب في الأرض. والله تعالى لا يحب المفسدين، و "إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ ۖ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ" ﴿المائدة 91﴾ العَداوةَ: الخصومة، إنما يريد الشيطان بتزيين الآثام لكم أن يُلقِي بينكم ما يوجد العداوة والبغضاء، بسبب شرب الخمر ولعب الميسر، ويصرفكم عن ذكر الله وعن الصلاة بغياب العقل في شرب الخمر، والاشتغال باللهو في لعب الميسر، فانتهوا عن ذلك، و "كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّىٰ تُؤْمِنُوا بِاللَّه" ﴿الممتحنة 4﴾ قد كانت لكمأيها المؤمنون قدوة حسنة في إبراهيم عليه السلام والذين معه من المؤمنين، حين قالوا لقومهم الكافرين بالله: إنا بريئون منكم وممَّا تعبدون من دون الله من الآلهة والأنداد، كفرنا بكم، وأنكرنا ما أنتم عليه من الكفر، وظهر بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدًا ما دمتم على كفركم، حتى تؤمنوا بالله وحده، لكن لا يدخل في الاقتداء استغفار إبراهيم لأبيه؛ فإن ذلك إنما كان قبل أن يتبين لإبراهيم أن أباه عدو لله، فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه، ربنا عليك اعتمدنا، وإليك رجعنا بالتوبة، وإليك المرجع يوم القيامة.
وردت كلمة عدو ومشتقاتها في القرآن الكريم: عَدُوٌّ، يَعْتَدُونَ، اعْتَدَوْا، وَالْعُدْوَانِ، عَدُوًّا، عَادٍ، اعْتَدَى، تَعْتَدُوا، الْمُعْتَدِينَ، عُدْوَانَ، فَاعْتَدُوا، تَعْتَدُوهَا، يَتَعَدّ،َ لِتَعْتَدُوا، أَعْدَاءً، وَيَتَعَدَّ، عُدْوَانًا، بِأَعْدَائِكُمْ، تَعْدُوا، الْعَدَاوَةَ، عَدَاوَةً، اعْتَدَيْنَا، بِالْمُعْتَدِينَ، عَدُوَّكُمْ، الْأَعْدَاءَ، يَعْدُونَ، بِالْعُدْوَةِ، وَعَدُوَّكُمْ، الْمُعْتَدُونَ، وَعَدْوًا، تَعْدُ، وَعَدُوٌّ، الْعَادُونَ، عَادُونَ، عَدُوِّهِ، مُعْتَدٍ، عَدُوِّي، عَادَيْتُم، عَدُوِّهِمْ، الْعَدُوُّ، وَالْعَادِيَاتِ.
جاء في تفسير التبيان للشيخ الطوسي: الاختلاف اصل کل عداوة. و الوفاق أصل کل ولاية لأن الخلاف يوجب البغضة، ثم يقوي بالكثرة حتي يصير عداوة، ثم قال لهم يعني عيسي عليه السّلام "فَاتَّقُوا اللّهَ" (الشعراء 150) بأن تجتنبوا معاصيه و تفعلوا طاعاته "وَ أَطِيعُون" (الشعراء 150) في ما أدعوكم اليه من العمل بطاعة اللّه. قوله تعالى "لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا اليَهُودَ وَ الَّذِينَ أَشرَكُوا وَ لَتَجِدَنَّ أَقرَبَهُم مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنّا نَصاري ذلِكَ بِأَنَّ مِنهُم قِسِّيسِينَ وَ رُهباناً وَ أَنَّهُم لا يَستَكبِرُونَ" (البقرة 82) آية بلا خلاف. قيل في سبب نزول هذه الآية قولان: أحدهما- قال إبن عباس و سعيد بن جبير و عطاء و السدي: إنها نزلت في النجاشي ملك الحبشة و أصحابه لما اسلموا. و قال قتادة: نزلت في قوم من أهل الكتاب كانوا علي الحق متمسكين بشريعة عيسي (ع) فلما جاء محمّد صلي اللّه عليه و آله آمنوا به. و قال مجاهد: نزلت في الّذين جاءوا مع جعفر بن أبي طالب رحمه اللّه مسلمين و اللام في قوله "لتجدن" لام القسم. و النون دخلت لتفصل بين الحال و الاستقبال، هذا مذهب الخليل، و سيبويه و غيرهما. و قوله: "عداوة" منصرف منتصب علي التمييز. وصف اللّه تعالي اليهود و المشركين بأنهم أشد النّاس عداوة للمؤمنين، لأن اليهود ظاهروا المشركين علي المؤمنين مع أن المؤمنين يؤمنون بنبوة موسي و التوراة الّتي أتي بها، فكان ينبغي أن يكونوا الي من وافقهم في الايمان بنبيهم و كتابهم أقرب. و ظاهروا المشركين حسداً للنبي عليه السلام. و قوله: "وَ لَتَجِدَنَّ أَقرَبَهُم مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنّا نَصاري" (البقرة 82) يعني الّذين قدمنا ذكرهم- عن المفسرين. و قال الزجاج يجوز أن يکون أراد به النصاري، لأنهم كانوا أقل مظاهرة للمشركين، و به قال الجبائي. و روي عن إبن عباس أنه قال: من زعم أنها في النصاري فقد كذب. و إنما هم النصاري الأربعون الّذين فاضت أعينهم حين قرأ النبي (ص) عليهم القرآن اثنان و ثلاثون من الحبشة، و ثمانية من أهل الشام. و سارعوا الي الإسلام و لم يسارع اليهود. و المودة هي المحبة إذا کان معها ميل الطباع يقال: وددت الرجل أوده ودا و وداداً و مودة: إذا أحببته و ودته: إذا تمنيته أوده وداً. و منه قوله "وَدُّوا لَو تُدهِنُ فَيُدهِنُون" (القلم 9).
في دعاء الامام الصادق عليه السلام في شهر رجب (عادَتُكَ الاِحْسانُ إِلى المُسِيئِينَ وَسَبِيلُكَ الإِبْقاءُ عَلى المُعْتَدِينَ)، والله تعالى يطلب من عبده الاحسان الى المسئ "وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ" (فصلت 34) لان الله هو المحسن. وجاء في الحديث الشريف (أحسِن إلى مَن أساءَ إليك). ويقول الامام علي عليه السلام (أفضلُ المروءةِ احتمال جنايات الأخوان). واستعمال الخطاب والكلمة اللينة التي تستميل المتلقي يعد اسلوب مطلوب مما يكسب احترام متبادل كما قال رب العزة "ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ" (فصّلت 34)، و "ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ" (النحل 125). قوله تعالى "وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ" (فصلت 34) حيث التعامل بالحسنى يبعد العداوة والبغضاء ويجعل المجتمع في وفاق. والتعامل الحسن بين المجتمعات المختلفة يمنع الفساد الاجتماعي في الارض "وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ" (البقرة 251) وهو ما يسمى دفع الأذى. الشيطان يبث العداوة فالاستعاذة من الشيطان الذي يصد عن ذكر الله تصبح ضرورة "وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ" (المائدة 91). وينسي الشيطان الانسان ذكر ربه "فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ" (يوسف 42) و "اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ" (المجادلة 19).
https://telegram.me/buratha