الدكتور فاضل حسن شريف
قال الله تعالى عن قرية "أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَىٰ قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا" ﴿البقرة 259﴾ قرية: بيت المقدس و الحديث عن أرميا، أو هل رأيت أيها الرسول مثل الذي مرَّ على قرية قد تهدَّمت دورها، وخَوَتْ على عروشها، فقال: كيف يحيي الله هذه القرية بعد موتها؟ فأماته الله مائة عام، ثم ردَّ إليه روحه، وقال له: كم قدر الزمان الذي لبثت ميتًا؟ قال: بقيت يومًا أو بعض يوم، فأخبره بأنه بقي ميتًا مائة عام، وأمره أن ينظر إلى طعامه وشرابه، وكيف حفظهما الله من التغيُّر هذه المدة الطويلة، وأمره أن ينظر إلى حماره كيف أحياه الله بعد أن كان عظامًا متفرقة؟ وقال له: ولنجعلك آية للناس، أي: دلالة ظاهرة على قدرة الله على البعث بعد الموت، وأمره أن ينظر إلى العظام كيف يرفع الله بعضها على بعض، ويصل بعضها ببعض، ثم يكسوها بعد الالتئام لحمًا، ثم يعيد فيها الحياة؟ فلما اتضح له ذلك عِيانًا اعترف بعظمة الله، وأنه على كل شيء قدير، وصار آية للناس، و "وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا ۖ وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ" ﴿الأنعام 123﴾ قرية اسم، ومثل هذا الذي حصل مِن زعماء الكفار في (مكة) من الصدِّ عن دين الله تعالى، جعلنا في كل قرية مجرمين يتزعمهم أكابرهم؛ ليمكروا فيها بالصد عن دين الله، وما يكيدون إلا أنفسهم، وما يُحِسُّون بذلك، و "وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ" ﴿الأعراف 4﴾ وكم من قرية: كثيراً من القرى أهكلنا، وكثير من القرى أهلكنا أهلها بسبب مخالفة رسلنا وتكذيبهم، فأعقبهم ذلك خزي الدنيا موصولا بذلِّ الآخرة، فجاءهم عذابنا مرة وهم نائمون ليلا ومرة وهم نائمون نهارًا. وخَصَّ الله هذين الوقتين؛ لأنهما وقتان للسكون والاستراحة، فمجيء العذاب فيهما أفظع وأشد، و "وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ" ﴿الأعراف 94﴾ وما أرسلنا في قرية من نبي يدعوهم إلى عبادة الله، وينهاهم عمَّا هم فيه من الشرك، فكذَّبه قومه، إلا ابتليناهم بالبأساء والضراء، فأصبناهم في أبدانهم بالأمراض والأسقام، وفي أموالهم بالفقر والحاجة؛ رجاء أن يستكينوا، وينيبوا إلى الله، ويرجعوا إلى الحق، و "فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَىٰ حِينٍ" ﴿يونس 98﴾ قرية هي نينوى قرية يونس، لم ينفع الإيمان أهل قرية آمنوا عند معاينة العذاب إلا أهل قرية يونس بن مَتَّى، فإنهم لـمَّا أيقنوا أن العذاب نازل بهم تابوا إلى الله تعالى توبة نصوحا، فلمَّا تبيَّن منهم الصدق في توبتهم كشف الله عنهم عذاب الخزي بعد أن اقترب منهم، وتركهم في الدنيا يستمتعون إلى وقت إنهاء آجالهم، و "وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ" ﴿الحجر 4﴾ وإذا طلبوا نزول العذاب بهم تكذيبًا لك أيها الرسول فإنا لا نُهْلك قرية إلا ولإهلاكها أجل مقدَّر، لا نُهْلكهم حتى يبلغوه، مثل مَن سبقهم.
جاء في تفسير الميزان للعلامة السيد الطباطبائي: قوله تعالى "وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ" (الاعراف 4) تذكير لهم بسنة الله الجارية في المشركين من الأمم الماضية إذ اتخذوا من دون الله أولياء فأهلكهم الله بعذاب أنزله إليهم ليلا أو نهارا فاعترفوا بظلمهم. والبيات التبييت وهو قصد العدو ليلا، والقائلون من القيلولة وهو النوم نصف النهار، وقوله "بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ" (الاعراف 4) ولم يقل ليلا أو نهارا كأنه للإشارة إلى أخذ العذاب إياهم وهم آخذون في النوم آمنون مما كمن لهم من البأس الإلهي الشديد غافلون مغفلون. قوله تعالى "وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِي" (الاعراف 94) إلى آخر الآية. قيل: البأساء في المال كالفقر، والضراء في النفس كالمرض، وقيل: يعني بالبأساء ما نالهم من الشدة في أنفسهم وبالضراء ما نالهم في أموالهم، وقيل: غير ذلك. وقيل: إن البأس والبأساء يكثر استعمالهما في الشدة التي هي بالنكاية والتنكيل كما في قوله تعالى "وَاللهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلا" (النساء 84). ولعل قوله بعد "الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ" (الاعراف 95) حيث أريد بهما ما يسوء الإنسان وما يسره يكون قرينة على إرادة مطلق ما يسوء الإنسان من الشدائد من الضراء، ويكون قوله "بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ" (الاعراف 94) من ذكر العام بعد الخاص. يذكر سبحانه أن السنة الإلهية جرت على أنه كلما أرسل نبيا من الأنبياء إلى قرية من القرى وما يرسلهم إليهم إلا ليهديهم سبيل الرشاد ابتلاهم بشيء من الشدائد في النفوس والأموال رجاء أن يبعثهم ذلك إلى التضرع إليه سبحانه ليتم بذلك أمر دعوتهم إلى الإيمان بالله والعمل الصالح.
جاء في التفسير الوسيط لمحمد سيد طنطاوي: قوله تعالى "فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ" (يونس 98) قال القرطبي ما ملخصه: (روى في قصة يونس عليه السلام عن جماعة من المفسرين، أن قوم يونس كانوا بنينوى من أرض الموصل بالعراق وكانوا يعبدون الأصنام، فأرسل الله إليهم يونس يدعوهم إلى الإسلام، وترك ما هم عليه فأبوا، فقيل: إنه أقام يدعوهم تسع سنين فيئس من إيمانهم. فقيل له: أخبرهم أن العذاب مصبحهم إلى ثلاث ففعل. وقالوا: هو رجل لا يكذب فارقبوه، فإن أقام معكم وبين أظهركم فلا عليكم، وإن ارتحل عنكم، فهو نزول العذاب لا شك فلما كان الليل تزود يونس وخرج عنهم، فأصبحوا فلم يجدوه، فآمنوا وتابوا، ودعوا الله ولبسوا المسوح، وفرقوا بين الأمهات والأولاد من الناس والبهائم، وردوا المظالم. قال الزجاج: إنهم لم يقع بهم العذاب، وإنما رأوا العلامة التي تدل على العذاب، ولو رأوا العذاب لما نفعهم الإيمان). وكلمة "فَلَوْلا" في قوله سبحانه "فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ" (يونس 98) للحث والتحضيض، فهي بمعنى هلا. والمقصود بالقرية أهلها وهم أقوام الأنبياء السابقين، وهي اسم كان. وقوله آمَنَتْ خبرها. وقوله فَنَفَعَها إِيمانُها معطوف على "آمَنَتْ". والمعنى: فهلا عاد المكذبون إلى رشدهم وصوابهم، فآمنوا بالحق الذي جاءتهم به رسلهم، فنجوا بذلك من عذاب الاستئصال الذي حل بهم فقطع دابرهم، كما نجا منه قوم يونس عليه السلام فإنهم عند ما رأوا أمارات العذاب الذي أنذرهم به نبيهم آمنوا وصدقوا، فكشف الله عنهم هذا العذاب الذي كاد ينزل بهم، ومتعهم بالحياة المقدرة لهم، إلى حين انقضاء آجالهم في هذه الدنيا. قال الإمام الشوكانى: والاستثناء بقوله: "إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ" (يونس 98) منقطع، وهو استثناء من القرية لأن المراد أهلها. والمعنى: فهلا قرية واحدة من القرى التي أهلكناها آمنت إيمانا معتدا به وذلك بأن يكون خالصا لله قبل معاينة العذاب، ولم تؤخره كما أخره فرعون، لكن قوم يونس "لما آمنوا" (يونس 98) إيمانا معتدا به قبل معاينة العذاب، أو عند أول المعاينة قبل حلوله بهم "كشفنا عنهم عذاب الخزي" (يونس 98) أى: الذل والهوان. وقيل يجوز أن يكون متصلا، والجملة في معنى النفي، كأنه قيل: ما آمنت قرية من القرى الهالكة إلا قوم يونس. قوله تعالى "وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ" (الحجر 4) قرر سبحانه أن هلاك الأمم الظالمة، موقوت بوقت محدد في علمه، وأن سنته في ذلك ماضية لا تتخلف. و "من" في قوله "مِنْ قَرْيَةٍ" والمراد بالقرية أهلها. والمراد بالكتاب المعلوم: الوقت المحدد في علم الله تعالى لهلاكها، شبه بالكتاب لكونه لا يقبل الزيادة أو النقص. والأجل: مدة الشيء. أى: وما أهلكنا من قرية من القرى الظالم أهلها، إلا ولهلاكها وقت محدد في علمنا المحيط بكل شيء، ومحال أن تسبق أمة من الأمم أجلها المقدر لها أو تتأخر عنه. قال ابن جرير رحمه الله عند تفسيره لهاتين الآيتين ما ملخصه: يقول تعالى ذكره وَما أَهْلَكْنا يا محمد مِنْ أهل قَرْيَةٍ من القرى التي أهلكنا أهلها فيما مضى: "إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ" (الحجر 4) أى: أجل مؤقت ومدة معروفة، لا نهلكهم حتى يبلغوها، فإذا بلغوها أهلكناهم عند ذلك.. دون أن يتقدم هلاكهم عن ذلك أو يتأخر. وجملة "إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ" في محل نصب على الحال من قرية، وصح ذلك لأن كلمة قرية وإن كانت نكرة، إلا أن وقوعها في سياق النفي سوغ مجيء الحال منها. أى: ما أهلكناها في حال من الأحوال، إلا في حال بلوغها نهاية المدة المقدرة لبقائها دون تقديم أو تأخير. قال تعالى "وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ" (الاعراف 34).
جاء في الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل للشيخ ناصر مكارم الشيرازي: قوله تعالى " أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها قال أنى يحيي هذه الله بعد موتها" (البقرة 259) هذه الآية - كما قلنا - تكملة للآية السابقة التي دارت حول التوحيد. هذه الآية والآيات التالية تجسد مسألة المعاد. "عروش" جمع عرش، وهنا تعني السقف. و "خاوية" في الأصل بمعنى خالية، ولكنها هنا كناية عن الخراب والدمار، فالبيوت العامرة تكون عادة مسكونة، أما الدور الخالية فإما أن تكون قد تهدمت من قبل، أو أنها تهدمت بسبب خلوها من الساكنين، وعليه فإن قوله وهي خاوية على عروشها تعني أن دور تلك القرية كانت كلها خربة، فقد هوت سقوفها ثم انهارت الجدران عليها، وهذا هو الخراب التام إذ أن الانهدام يكون عادة بسقوط السقف أولا، وتبقى الجدران قائمة بعض الوقت، ثم تنهار فوق السقف. قال أنى يحيي هذه الله بعد موتها. الظاهر أن أحدا لم يكن مع النبي في هذه الواقعة، فهو بهذا يخاطب نفسه. وبديهي أن القرية هنا تعني أهل القرية، وهذا يعني أنه كان يرى عظام أهل القرية بعينيه، فأشار إليها وهو ينطق بتساؤله. فأماته الله مائة عام ثم بعثه. يرى أكثر المفسرين أن هذه الآية تعني أن الله قد أمات النبي المذكور مدة مائة سنة ثم أحياه بعد ذلك، وهذا ما يستفاد من كلمة " أماته ". إلا أن صاحب تفسير المنار يحتمل أن يكون ذلك إشارة إلى نوع من النوم الطويل المعروف عند بعض الحيوانات المسمى بالسبات. حيث يغط الكائن الحي في نوم عميق وطويل دون أن تتوقف فيه الحياة، كالذي حدث مثلا عند أصحاب الكهف. قلنا: إن من خصائص تكرار العمل القبيح أن قبحه يتضاءل في عين الفاعل حتى يبدو له أخيرا وكأنه عمل جميل، ويتحول إلى مثل القيد يشد أطرافه، ويمنعه من الخروج من هذا الفخ، إن مطالعة بسيطة لحال المجرمين تكشف لنا هذه الحقيقة بجلاء. ولما كان بطل هذه المشاهد في جانبها السلبي هو " أبو جهل " الذي كان من كبار مشركي قريش ومكة، فالآية الثانية تشير إلى حال هؤلاء الزعماء الضالين وقادة الكفر والفساد، فتقول: "وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها" (الانعام 123).
https://telegram.me/buratha