الدكتور فاضل حسن شريف
تكملة للحلقتين السابقتين قال الله تعالى عن العدو "يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلًا" ﴿التوبة 120﴾ ما كان ينبغي لأهل مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومَن حولهم من سكان البادية أن يتخلَّفوا في أهلهم ودورهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يرضوا لأنفسهم بالراحة والرسول صلى الله عليه وسلم في تعب ومشقة، ذلك بأنهم لا يصيبهم في سفرهم وجهادهم عطش ولا تعب ولا مجاعة في سبيل الله، ولا يطؤون أرضًا يُغضِبُ الكفارَ وطؤهم إياها، ولا يصيبون مِن عدو الله وعدوهم قتلا أو هزيمةً إلا كُتِب لهم بذلك كله ثواب عمل صالح. إن الله لا يضيع أجر المحسنين، و "قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَىٰ إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا ۖ إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ" ﴿يوسف 5﴾ قال يعقوب لابنه يوسف: يا بني لا تذكر لإخوتك هذه الرؤيا فيحسدوك، ويعادوك، ويحتالوا في إهلاكك، إن الشيطان للإنسان عدو ظاهر العداوة، و "وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ ۗ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ ۚ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا" ﴿الكهف 50﴾ واذكر حين أمرنا الملائكة بالسجود لآدم، تحية له لا عبادة، وأمرنا إبليس بما أُمِروا به، فسجد الملائكة جميعًا، لكن إبليس الذي كان من الجن خرج عن طاعة ربه، ولم يسجد كِبرًا وحسدًا، أفتجعلونه أيها الناس وذريته أعوانًا لكم تطيعونهم وتتركون طاعتي، وهم ألد أعدائكم؟ قَبُحَتْ طاعة الظالمين للشيطان بدلا عن طاعة الرحمن، و "أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ ۚ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَىٰ عَيْنِي" ﴿طه 39﴾ وذلك حين ألهمْنا أمَّك: أن ضعي ابنك موسى بعد ولادته في التابوت، ثم اطرحيه في النيل، فسوف يلقيه النيل على الساحل، فيأخذه فرعون عدوي وعدوه. وألقيت عليك محبة مني فصرت بذلك محبوبًا بين العباد، ولِتربى على عيني وفي حفظي. وفي الآية إثبات صفة العين لله سبحانه وتعالى كما يليق بجلاله وكماله، و "فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَـٰذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَىٰ" ﴿طه 117﴾ فقلنا: يا آدم إن إبليس هذا عدو لك ولزوجتك، فاحذرا منه، ولا تطيعاه بمعصيتي، فيخرجكما من الجنة، فتشقى إذا أُخرجت منها.
عن تفسير التبيان للشيخ الطوسي: قوله تعالى "أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ ۚ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَىٰ عَيْنِي" ﴿طه 39﴾ و قال الجبائي: رأت في المنام أن اقذفيه في التابوت، ثم اقذفيه في اليم، و القذف هو الطرح، و اليم البحر قال الراجز: كنازح اليم سقاه اليم. و قيل: المراد به هاهنا النيل. و قوله "فَليُلقِهِ اليَمُّ بِالسّاحِلِ" (طه 39) جزاء و خبر أخرج مخرج الامر و مثله "اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَ لنَحمِل خَطاياكُم" (العنكبوت 12) و التقدير فاطرحيه في اليم فليلقه اليم بالساحل. و قوله "يَأخُذهُ عَدُوٌّ لِي وَ عَدُوٌّ لَهُ" (طه 39) يعني فرعون. و کان عدوّاً للّه بكفره وحدانيته و ادعائه الربوبية، و کان عدو موسي، لتصوره أن ملكه ينقرض علي يده. و قوله "وَ أَلقَيتُ عَلَيكَ مَحَبَّةً مِنِّي" (طه 39) معناه إني جعلت من رآك أحبك حتي أحبك فرعون، فسلمت من شره، و احبتك امرأته آسية بنت مزاحم فتبنتك. قوله تعالى "فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَـٰذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَىٰ" ﴿طه 117﴾ قال الرماني: و إذا أمر الملائكة بالسجود اقتضي أن من دونهم داخل معهم، کما أنه إذا أمر الكبراء بالقيام للأمير اقتضي أن الصغار القدر، قد دخلوا معهم. و قوله (أبي) معناه امتنع "فَقُلنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَ لِزَوجِكَ" (طه 117) حكاية عما قال اللّه لآدم: إن إبليس عدوك و عدو زوجتك يريد إخراجكما من الجنة، و نسب الإخراج الي إبليس إذ کان بدعائه و اغوائه. و قوله «فتشقي» قيل: معناه تتعب بأن تأكل من كدّ يدك و ما تكتسبه لنفسك. و قيل: فتشقي علي خطاب الواحد، و المعني فتشقي أنت و زوجك، لأن أمرهما في السبب واحد، فاستوي حكمهما لاستوائهما في العلة. و قيل: خص بالشقاء لأن الرجل يكد علي زوجته.
جاء في کتاب مجمع البيان في تفسير القرآن للشيخ الطبرسي: قوله تعالى "ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الاعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطئون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صلح إن الله لا يضيع أجر المحسنين (120) ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة ولا يقطعون واديا إلا كتب لهم ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون (121)" (التوبة 120-121) ظاهره خبر ومعناه نهي، مثل قوله: "وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله" (الاحزاب 53)، "ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه" (التوبة 120) أمروا بصحبة رسول الله صلى الله عليه وآله على البأساء والضراء، وبأن يكابدوا معه الشدائد برغبة ونشاط * (ذلك) * إشارة إلى ما دل عليه قوله: " ما كان لهم أن يتخلفوا " من وجوب مشايعته، أي "ذلك" الوجوب "ب" سبب "أنهم لا يصيبهم" شئ من عطش ولا تعب ولا مجاعة في طريق الجهاد، ولا يضعون أقدامهم ولا يدوسون بحوافر خيولهم وأخفاف رواحلهم موضعا "يغيظ الكفار" وطأهم إياه، ولا يتصرفون في أرضهم تصرفا يضيق صدورهم "ولا ينالون من عدو نيلا" (التوبة 120) ولا يرزؤونهم شيئا بقتل أو أسر أو أمر يغمهم "(إلا كتب لهم به عمل صلح" (التوبة 120) واستوجبوا الثواب عند الله، والموطئ: إما مصدر كالمورد وإما مكان، والنيل: يجوز أن يكون مصدرا مؤكدا وأن يكون بمعنى المنيل، وهو عام في كل ما يسوؤهم ويضرهم. قوله تعالى "قال يبنى لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا إن الشيطان للانسان عدو مبين" (يوسف 5) "قال" يعقوب: "لا تقصص رؤياك على إخوتك" (يوسف 5) خاف عليه حسد إخوته له وبغيهم عليه، لما عرف من دلالة رؤياه على أن الله يبلغه من شرف الدارين أمرا عظيما "فيكيدوا" منصوب بإضمار "أن"، والمعنى: إن قصصتها عليهم كادوك، ضمن قوله: "يكيدوا" معنى يحتالوا فعداه باللام ليفيد معنى الفعلين، ثم أكده بالمصدر فقال: "كيدا"، *"عدو مبين" ظاهر العداوة.
جاء في التفسير الوسيط لمحمد سيد طنطاوي: قوله تعالى "أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا" (الكهف 50) تذكير لبنى آدم بالعداوة القديمة بين أبيهم آدم وبين إبليس وذريته. أى: أفبعد أن ظهر لكم يا بنى آدم ما ظهر من فسوق إبليس عن أمر ربه، تتخذونه وذريته الذين نهجوا نهجه، أولياء، وأصفياء من دوني، فتطيعونهم بدل أن تطيعوني، والحال أن إبليس وذريته لكم عدو؟ والمقصود بهذا التذكير تحذيرهم من وساوسه، وحضهم على مخالفته، كما قال تعالى: "إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ" (فاطر 6). والملائكة: جمع ملك. وهم كما وصفهم الله تعالى: "لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ" (التحريم 6). وآدم: اسم لأبى البشر، قيل: إنه اسم عبراني مشتق من أدمه بمعنى التراب. والسجود لغة: التذلل والخضوع. وخص في الشرع بوضع الجبهة على الأرض بقصد العبادة. وإبليس اسم مشتق من الإبلاس، وهو الحزن الناشئ عن شدة اليأس وفعله أبلس، والراجح أنه اسم أعجمى. ومنعه من الصرف للعلمية والعجمة. والمعنى واذكر أيها العاقل لتعتبر وتتعظ، وقت أن قلنا للملائكة اسجدوا لآدم، سجود تحية واحترام وتوقير، لا سجود عبادة وطاعة لأن ذلك لا يكون إلا لله رب العالمين.
https://telegram.me/buratha