الدكتور فاضل حسن شريف
تكملة للحلقة السابقة قال الله تعالى عن قرية "وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ" ﴿النحل 112﴾ قرية اسم، وضرب الله مثلا بلدة (مكة) كانت في أمان من الاعتداء، واطمئنان مِن ضيق العيش، يأتيها رزقها هنيئًا سهلا من كل جهة، فجحد أهلُها نِعَمَ الله عليهم، وأشركوا به، ولم يشكروا له، فعاقبهم الله بالجوع، والخوف من سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم وجيوشه، التي كانت تخيفهم؛ وذلك بسبب كفرهم وصنيعهم الباطل، و "وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا" ﴿الإسراء 16﴾ وإذا أردنا إهلاك أهل قرية لظلمهم أَمَرْنا مترفيهم بطاعة الله وتوحيده وتصديق رسله، وغيرهم تبع لهم، فعصَوا أمر ربهم وكذَّبوا رسله، فحقَّ عليهم القول بالعذاب الذي لا مردَّ له، فاستأصلناهم بالهلاك التام، و "وَإِن مِّن قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا ۚ كَانَ ذَٰلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا" ﴿الإسراء 58﴾ ويتوعَّد الله الكفار بأنه ما من قريةٍ كافرة مكذبة للرسل إلا وسينزل بها عقابه بالهلاك في الدنيا قبل يوم القيامة أو بالعذاب الشديد لأهلها، كتاب كتبه الله وقضاء أبرمه لا بد مِن وقوعه، وهو مسطور في اللوح المحفوظ، و "فَانطَلَقَا حَتَّىٰ إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ ۖ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا" ﴿الكهف 77﴾ فذهب موسى والخَضِر حتى أتيا أهل قرية، فطلبا منهم طعامًا على سبيل الضيافة، فامتنع أهل القرية عن ضيافتهما، فوجدا فيها حائطًا مائلا يوشك أن يسقط، فعدَّل الخَضِر مَيْلَه حتى صار مستويًا، قال له موسى: لو شئت لأخذت على هذا العمل أجرًا تصرفه في تحصيل طعامنا حيث لم يضيفونا، و "مَا آمَنَتْ قَبْلَهُم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا ۖ أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ" ﴿الأنبياء 6﴾ ما آمنت قبل كفار (مكة) من قرية طلب أهلها المعجزات مِن رسولهم وتحققت، بل كذَّبوا، فأهلكناهم، أفيؤمن كفار"مكة" إذا تحققت المعجزات التي طلبوها؟ كلا إنهم لا يؤمنون.
جاء في تفسير جوامع الجامع للشيخ الطبرسي: قوله تعالى "وضرب الله مثلا قرية" ﴿النحل 112﴾ أي: جعل القرية التي هذه صفتها مثلا لكل قوم أنعم الله عليهم فبطروا وكفروا النعمة وتولوا فأنزل الله بهم العذاب والنقمة "مطمئنة" أي: قارة ساكنة لا يزعجها خوف أو ضيق "رغدا" أي: واسعا، وسمي أثر "الجوع والخوف" ﴿النحل 112﴾ لباسا لأن أثرهما يظهر على الإنسان كما يظهر اللباس، وقيل: لأنه شملهم الجوع والخوف كما يشمل اللباس البدن، فكأنه قال: فأذاقهم ما غشيهم وشملهم من الجوع والخوف، وقيل: هذه القرية هي مكة عذبهم الله بالجوع سبع سنين حتى أكلوا القد والعلهز وهو الوبر يختلط بالدم والقراد، وكانوا مع ذلك خائفين من النبي صلى الله عليه وآله وأصحابه يغيرون على قوافلهم، وذلك حين دعا عليهم فقال: (اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعل عليهم سنين كسني يوسف عليه السلام). "وهم ظالمون" في موضع الحال. وقوله تعالى "وإذا أردنا أن نهلك" (الاسراء 16) أهل "قرية" بعد قيام الحجة عليهم وإرسال الرسل إليهم "أمرنا مترفيها" (الاسراء 16) المتنعمين فيها بالإيمان والطاعة توكيدا للحجة عليهم "ففسقوا فيها" بالمعاصي "فحق عليها القول" (الاسراء 16) أي: فوجب حينئذ على أهلها الوعيد فأهلكناها إهلاكا، وإنما خص المترفين وهم الرؤساء بالذكر لأن غيرهم تبع لهم، وقيل: معناه: كثرنا مترفيها، فيكون من باب أمرته فأمر، أي: كثرته فكثر، مثل: بشرته فبشر. وفي الحديث: (خير المال سكة مأبورة ومهرة مأمورة) أي: كثيرة النتاج. وقرئ: "آمرنا" أي: أفعلنا، من أمر وآمره غيره، وأمرنا بمعناه، أو من أمر إمارة وأمره الله، أي: جعلناهم أمراء وسلطناهم.
جاء في التفسير الكاشف للشيخ محمد جواد مغنية: قوله تعالى "وَ إِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلاََّ نَحْنُ مُهْلِكُوهََا قَبْلَ يَوْمِ اَلْقِيََامَةِ" (الاسراء 58) يأتي هذا اليوم و لا حيّ على وجه الأرض حيث تفنى الخلائق بالموت الطبيعي "أَوْ مُعَذِّبُوهََا عَذََاباً شَدِيداً" (الاسراء 58) لأنها ركست و تمادت في الفساد و الانحلال، و البغي و الضلال. قوله تعالى "وَ أَمَّا اَلْجِدََارُ فَكََانَ لِغُلاََمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي اَلْمَدِينَةِ" (الكهف 82) قال سبحانه في آية سابقة: "أتيا أهل قرية" (الكهف 77) و قال هنا: "في المدينة" و معنى هذا أن القرية تطلق على المدينة وَ كََانَ تَحْتَهُ تحت الجدار كَنْزٌ لَهُمََا وَ كََانَ أَبُوهُمََا صََالِحاً فيه إيماء إلى أن لصلاح الأب بعض الأثر لحفظ الابن و العناية به "فَأَرََادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغََا أَشُدَّهُمََا" (الكهف 82) أن يبلغا الحلم و الرشد "وَ يَسْتَخْرِجََا كَنزَهُمََا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ" (الكهف 82) كان تحت الجدار مال مدفون، و متى سقط الجدار ظهر المال للعيان، و ترك للغصب و النهب، فأقمته حرصا على المال، حتى إذا كبر الغلامان استخرجاه بطريق أو بآخر و انتفعا به "وَ مََا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي" (الكهف 82) بل يوحي منه تعالى "ذََلِكَ تَأْوِيلُ" ما أنكرت و عارضت، و عليك أن تنتفع بهذا الدرس، و لا تحكم على الشيء بقول مطلق، و أنت لا تعرف منه إلا وجهه الظاهر، بل تمهل و انظر إلى الشيء من جميع جهاته، فإن لكل ظاهر باطنا قد يكون على مثاله، و قد يكون على الضد منه. و قد تساءل كثيرون عما فعله الخضر من خرق السفينة و قتل الغلام، و إقامة الجدار بلا سبب ظاهر؟ و ملخص الجواب: أولا هذه حوادث خاصة في وقائع معيّنة، تمت يوحي من اللّه إلى نبي من أنبيائه، و ليست مبادئ عامة و قواعد كلية، يطبقها الفقية حسب نظره و اجتهاده. ثانيا إن خرق السفينة يتفق تماما مع قاعدة دفع الضرر الأشد بالضرر الأخف. و إقامة الجدار تفضل و إحسان على كل الفروض و التقادير، أما قتل الغلام فقد كان على جرمه المادي المشهور، حيث كان شابا تجاوز سن القصور و الطفولة، بدليل أنه كان يجاهد أبويه على الكفر و الإلحاد كما سبقت الإشارة، و الآية الكريمة ظاهرة في ذلك، لأن الطفل الصغير أعجز من أن يطغى على أبويه "وَ يَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي اَلْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً" (الكهف 83) سأل اليهود محمدا صلى الله عليه وآله وسلم عن أخبار ذي القرنين لمجرد الإخراج، و ما دروا أن اللّه يسانده و يمده بالجواب المفحم المخرس، و على السنة المألوفة المعروفة: اختلف العلماء و المفسرون من الأولين و الآخرين في هوية ذي القرنين و حقيقته دون أن يأتوا بنتيجة مقنعة "إِنََّا مَكَّنََّا لَهُ فِي اَلْأَرْضِ وَ آتَيْنََاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً" (الكهف 84) أعطاه سبحانه في الدنيا الملك العظيم، و هيأ له من أسباب القوة كل سبب من العدة و العدد، و فوق ذلك توفيق اللّه و عنايته.
جاء في موقع سماحة الشيخ جلال الدين الصغير عن الفارق بين القرية والمدينة في القران الكريم؟ الجواب: اختلف المتحدثون في هذا المجال ما بين من قال بعدم وجود فرق بين الكلمتين في المعنى وانه من المترادف اللغوي، وبين من نفى المترادف وقال بوجود فارق ما بين الكلمتين، وبالنسبة لنا فبادئ ذي بدء اعتقد بانه لا يمكن القول بان القرية والمدينة تؤديان معنى الترادف الذي يؤدي فيه احدهما معنى الاخر لاننا لا نؤمن بوجود المترادف اللغوي في القران أساساً، وانما ثمة فارق دائم بين الكلمات القرآنية، كما في كلمات يوم الجزاء ويوم القيامة ويوم الدين ويوم الحساب، فكلها لا تحكي وحدة دقيقة في المعنى وان اتحدت للوهلة الاولى بالموقف ما بعد القبر، وانما ثمة مراحل تتدرج بعد القبر تسمى تارة بيوم القيامة ثم بيوم الحشر ثم بيوم الحساب ثم بيوم الجزاء وهكذا، او في التفريق بين الرحمن والرحيم، فمع ان مصدر الرحمة هنا واحد، ولكن رحمة الرحمن غير رحمة الرحيم، لان الاولى اعم من الثانية، اذ الاولى متعلقة بالتكوين وتشمل كل شيء في الوجود بغض النظر عن موقفه من طاعة الله ومعصيته، والثانية متعلقة بالتشريع وتخص الذين يلتزمون بشرع الله واوامره ونهيه، وهنا لا نستطيع ان نستعير احدها لنضعه في محل الاخر، وهو امر مألوف في اللغة، وهو نفس ما نلاحظه في الكلمتين مورد السؤال. وما استظهره بعضهم بأن قول الله تعالى في سورة يس: "وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ" (يس 13). ثم قوله في نفس الموضوع: "وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ" (يس 20) للقول بأن لا فارق بين الكلمتين، وفي تصوري فإنه ينطوي على وهم نتيجة لاختزال القصة وصبها في واقع واحد، بينما طبيعة القصة القرآنية التي تنطوي في العادة على حذف للتفاصيل تشير الى ان الحديث هنا يجري عن مقامين مختلفين وان كانت الحكاية عنهما في اطار القصة الواحدة، فالمرسلون ذهبوا الى القرية، والتساؤل الطبيعي الذي يجب ان يطرح عندئذ هو من اين جاء المرسلون؟ اذ الاية الاولى تشير الى اين ذهبوا ولكنها تسكت عن محل انطلاقهم نحوها، بينما الاية الثانية تتحدث عن ان الذي جاء الى القرية انما جاء من المدينة الى القرية، وواهم من تصور ان قوله من اقصى المدينة يعني ان القرية هي نفس المدينة وانها كانت مدينة كبيرة مترامية الاطراف، وانه جاء من ابعد نقطة فيها الى هذه القرية، وانما نفس وصف البعد يستلزم التفريق ما بين المقامين.
https://telegram.me/buratha