الدكتور فاضل حسن شريف
قال الله تعالى عن يتربص ومشتقاتها "إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّىٰ حِينٍ" ﴿المؤمنون 25﴾ فَتَرَبَّصُوا: فَ حرف استئنافية تَرَبَّصُ فعل، وا ضمير، فَتَرَبَّصُوا: فانتظروا، فَتَرَبَّصُوا: انتظروا هلاكه أو شفاءه من الجنون، فتربصوا به: انتظروا و اصبروا عليه، فكذَّبه أشراف قومه، وقالوا لعامتهم: إنه إنسان مثلكم لا يتميَّز عنكم بشيء، ولا يريد بقوله إلا رئاسة وفضلا عليكم، ولو شاء الله أن يرسل إلينا رسولا لأرسله من الملائكة، ما سمعنا بمثل هذا فيمَن سبقنا من آباء وأجداد. وما نوح إلا رجل به مَسٌّ من الجنون، فانتظروا حتى يُفيق، فيترك دعوته، أو يموت، فتستريحوا منه، و "أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ" ﴿الطور 30﴾ نتربص فعل، و "يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ ۖ قَالُوا بَلَىٰ وَلَـٰكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّىٰ جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ" ﴿الحديد 14﴾ وَتَرَبَّصْتُمْ: وَ حرف عطف، تَرَبَّصْ فعل، تُمْ ضمير، ينادي المنافقون المؤمنين قائلين: ألم نكن معكم في الدنيا، نؤدي شعائر الدين مثلكم؟ قال المؤمنون لهم: بلى قد كنتم معنا في الظاهر، ولكنكم أهلكتم أنفسكم بالنفاق والمعاصي، وتربصتم بالنبي الموت وبالمؤمنين الدوائر، وشككتم في البعث بعد الموت، وخدعتكم أمانيكم الباطلة، وبقيتم على ذلك حتى جاءكم الموت وخدعكم بالله الشيطان، و "قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ" ﴿التوبة 24﴾ فَتَرَبَّصُوا: فَ حرف استئنافية تَرَبَّصُ فعل، وا ضمير، فَتَرَبَّصُوا: فانتظروا، قل يا أيها الرسول للمؤمنين: إن فَضَّلتم الآباء والأبناء والإخوان والزوجات والقرابات والأموال التي جمعتموها والتجارة التي تخافون عدم رواجها والبيوت الفارهة التي أقمتم فيها، إن فَضَّلتم ذلك على حب الله ورسوله والجهاد في سبيله فانتظروا عقاب الله ونكاله بكم. والله لا يوفق الخارجين عن طاعته.
وردت كلمة يتربص ومشتقاتها في القرآن الكريم: تَرَبُّصُ، يَتَرَبَّصْنَ، يَتَرَبَّصُونَ، فَتَرَبَّصُوا، تَرَبَّصُونَ، نَتَرَبَّصُ، مُتَرَبِّصُونَ، وَيَتَرَبَّصُ، مُتَرَبِّصٌ، تَرَبَّصُوا، الْمُتَرَبِّصِينَ، وَتَرَبَّصْتُمْ. قال الله تبارك وتعالى "الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُم مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ ۚ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلً" (النساء 65) فلا يجعل للمتربصين الكافرين على المؤمنين سبيلا بل على المؤمنين ردهم والدفاع عن مقدسات المسلمين. قالت فاطمة عليها السلام في خطبتها: فرض الله الايمان تطهيرا من الشرك والجهاد عزا للإسلام.
عن تفسير الجلالين لجلال الدين السيوطي: قوله تعالى "إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّىٰ حِينٍ" ﴿المؤمنون 25﴾ "إن هو" ما نوح "إلا رجل به جنة" حالة جنون "فتربصوا به" انتظروه "حتى حين" إلى زمن موته. قوله سبحانه "أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ" ﴿الطور 30﴾ "أم" بل "يقولون" هو "شاعر نتربص به ريب المنون" (الطور 30) حوادث الدهر فيهلك كغيره من الشعراء. والتربص الانتظار. قوله جل جلاله "يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ ۖ قَالُوا بَلَىٰ وَلَـٰكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّىٰ جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ" ﴿الحديد 14﴾ (ينادونهم ألم نكن معكم) * على الطاعة "قالوا بلى ولكنكم فتنتم أنفسكم" بالنفاق "وتربصتم" بالمؤمنين الدوائر "وارتبتم" شككتم في دين الاسلام "وغرتكم الأماني" الأطماع"حتى جاء أمر الل" الموت "وغركم بالله الغرور" الشيطان. قوله عز من قائل "قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ" ﴿التوبة 24﴾ "قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم" أقرباؤكم وفي قراءة عشيراتكم "وأموال اقترفتموها" اكتسبتموها "وتجارة تخشون كسادها" عدم نفادها "ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله" فقعدتم لأجله عن الهجرة والجهاد "فتربصوا" انتظروا "حتى يأتي الله بأمره" تهديد لهم "والله لا يهدي القوم الفاسقين".
جاء في الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل للشيخ ناصر مكارم الشيرازي: قوله تبارك وتعالى "إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّىٰ حِينٍ" ﴿المؤمنون 25﴾ الجنون الذي كان يتهم به جميع أنبياء الله عبر التاريخ، حيث قالوا: "إن هو إلا رجل به جنة فتربصوا به حتى حين" (المؤمنون 25). واستخدم المشركون تعبير به جنة ضد هذا النبي المرسل أي به (نوع من أنواع الجنون) ليغطوا على حقيقة واضحة، فكلام نوح عليه السلام خير دليل على رجحان علمه وعقله، وكانوا يبغون في الحقيقة أن يقولوا: كل هذه الأمور صحيحة، إلا أن الجنون فنون له صورا متباينة قد يقترن أحدها بالعقل، أما عبارة فتربصوا به حتى حين فقد تكون إشارة إلى انتظار موت نوح عليه السلام من قبل المخالفين الذين ترقبوا موته لحظة بعد أخرى ليريحوا أنفسهم، ويمكن أن تعني تأكيدا منهم لجنونه، فقالوا: انتظروا حتى يشفى من هذا المرض. قوله عز وجل "أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ" ﴿الطور 30﴾ الموت يتربص بالجميع: قرأنا في الآيات السابقة أن المشركين قد تشبثوا بمسألة كون النبي صلى الله عليه وآله وسلم بشرا من أجل التشكيك بنبوته، وكانوا يعتقدون أن النبي يجب أن يكون ملكا وخاليا من كل العوارض البشرية. إن الآيات محل البحث أشارت إلى بعض إشكالات هؤلاء، فهم يشيعون تارة أن انتفاضة النبي (وفي نظرهم شاعر) لا دوام لها، وسينتهي بموته كل شئ، كما جاء في الآية (30) من سورة الطور. قوله سبحانه وتعالى "يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ ۖ قَالُوا بَلَىٰ وَلَـٰكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّىٰ جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ" ﴿الحديد 14﴾ قالوا: بلى كنا معكم في أماكن كثيرة في الأزقة والأسواق، في السفر والحضر، وكنا أحيانا جيرانا أو في بيت واحد.. نعم كنا معا، إلا أن اختلافاتنا في العقيدة والعمل كانت هي الفواصل بيننا، لقد كنتم تسيرون في خط منفصل عن خطنا وكنتم غرباء عن الله في الأصول والفروع، لذا فأنتم بعيدون عنا. ثم يضيفون: لقد ابتليتم بخطايا وذنوب كثيرة من جملتها: 1 - ولكنكم فتنتم أنفسكم وخدعتموها بسلوك طريق الكفر والضلال. 2 - وتربصتم وانتظرتم موت النبي وهلاك المسلمين وانهدام أساس الإسلام، بالإضافة إلى التهرب من إنجاز كل عمل إيجابي وكل حركة صحيحة، حيث تتعللون وتماطلون وتسوفون إنجازها. 3 - وارتبتم في المعاد وحقانية دعوة النبي والقرآن. 4 - وخدعتكم الآمال وغرتكم الأماني حتى جاء أمر الله. "تربصتم" من مادة (تربص) في الأصل بمعنى الانتظار، سواء كان انتظار البلاء والمصيبة أو الكثرة والنعمة، والمناسب الأكثر هنا هو انتظار موت الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وانتكاسة الإسلام، أو أن الانتظار بمعنى التعلل في التوبة من الذنوب وإنجاز كل عمل من أعمال الخير. 5 - وغركم بالله الغرور إن الشيطان غركم بوساوسه في مقابل وعد الله عز وجل، فتارة صور لكم الدنيا خالدة باقية واخرى صور لكم القيامة بعيدة الوقوع. وفي بعض الأحيان غركم بلطف الله والرحمة الإلهية، وأحيانا جعلكم تشكون في أصل وجود الله العظيم الخالق. هذه العوامل الخمسة هي التي فصلت خطكم عنا بصورة كلية وأبعدتنا عنكم وأبعدتكم عنا. قوله جلت قدرته "قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ" ﴿التوبة 24﴾ إن أحد تفاسير جملة فتربصوا حتى يأتي الله بأمره ما أشرنا إليه آنفا، وهو التهديد من قبل الله لأولئك الذين يقدمون منافعهم المادية ويفضلونها على رضا الله، ولما كان هذا التهديد مجملا كان أثره أشد وحشة وإشفاقا، وهذا التعبير يشبه قول من يكلم صاحبه الذي دونه وتحت أمره، فيقول له: إذا لم تفعل ما أمرتك، فسأقوم بما ينبغي أيضا. وهناك احتمال آخر لتفسير الجملة محل البحث وهو أن الله سبحانه يقول: إذا لم تكونوا مستعدين للتضحية، فإن الله يفتح لنبيه عن طريق آخر. وكيف شاء، إذ ليس ذلك بعسير عليه. ونظير هذا المعنى ما جاء في الآية (54) من سورة المائدة، إذ نقرأ فيها "يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه" (المائدة 54).
https://telegram.me/buratha