الدكتور فاضل حسن شريف
قال الله تعالى عن فعل يقنط ومشتقاتها "قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ" ﴿الحجر 56﴾ يقنط فعل، قال: لا ييئس من رحمة ربه إلا الخاطئون المنصرفون عن طريق الحق. قال: فما الأمر الخطير الذي جئتم من أجله أيها المرسلون من عند الله؟ و "وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا ۖ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ" ﴿الروم 36﴾ يَقْنَطُونَ: يَقْنَطُ فعل، ونَ ضمير، يَقْنَطُونَ: ييأسون من رحمة الله، هم يقنطون: ييْأسون من رحمة الله تعالى، وإذا أذقنا الناس منا نعمة مِن صحة وعافية ورخاء، فرحوا بذلك فرح بطرٍ وأَشَرٍ، لا فرح شكر، وإن يصبهم مرض وفقر وخوف وضيق بسبب ذنوبهم ومعاصيهم، إذا هم يَيْئَسون من زوال ذلك، وهذا طبيعة أكثر الناس في الرخاء والشدة، و "قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ" ﴿الزمر 53﴾ تَقْنَطُوا: تَقْنَطُ فعل، وا ضمير، لا تَقْنَطُوا: لا تيأسوا، قل -أيها الرسول- لعبادي الذين تمادَوا في المعاصي، وأسرفوا على أنفسهم بإتيان ما تدعوهم إليه نفوسهم من الذنوب: لا تَيْئسوا من رحمة الله، لكثرة ذنوبكم، إن الله يغفر الذنوب جميعًا لمن تاب منها ورجع عنها مهما كانت، إنه هو الغفور لذنوب التائبين من عباده، الرحيم بهم، و "وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ ۚ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ" ﴿الشورى 28﴾ قنطوا: يئسوا، قَنَطُوا: يئسوا من نزوله، والله وحده هو الذي ينزل المطر من السماء، فيغيثهم به من بعد ما يئسوا من نزوله، وينشر رحمته في خلقه، فيعمهم بالغيث، وهو الوليُّ الذي يتولى عباده بإحسانه وفضله، الحميد في ولايته وتدبيره.
جاء في تفسير الجلالين لجلال الدين السيوطي: قوله تعالى "قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا" ﴿الزمر 53﴾ بكسر النون وفتحها، وقرئ بضمها تيأسوا "من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا" ﴿الزمر 53﴾ لمن تاب من الشرك "إنه هو الغفور الرحيم" ﴿الزمر 53﴾. قوله سبحانه "يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه" (يوسف 87) اطلبوا خبرهما "ولا تيأسوا" (يوسف 87) تقنطوا "من روح الله" رحمته "إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون" (يوسف 87) فانطلقوا نحو مصر ليوسف. قوله جل جلاله "وإذا أذقنا الناس" (روم 36) كفار مكة وغيرهم "رحمة" نعمة "فرحوا بها" فرح بطر "وإن تصبهم سيئة" (روم 36) شدة "بما قدمت أيديهم إذا هم يقنطون" (روم 36) ييأسون من الرحمة ومن شأن المؤمن أن يشكر عند النعمة ويرجو ربه عند الشدة. قوله عزت قدرته "قال ومن" ﴿الحجر 56﴾ أي لا "يقنط" ﴿الحجر 56﴾ بكسر النون وفتحها "من رحمة ربه إلا الضالون" ﴿الحجر 56﴾ الكافرون. فوله سبحانه وتعالى "وهو الذي ينزل الغيث" (الشورى 28) المطر "من بعد ما قنطوا" (الشورى 28) يئسوا من نزوله "وينشر رحمته" يبسط مطره "وهو الولي" المحسن للمؤمنين "الحميد" المحمود عندهم.
جاء في تفسير الميزان للعلامة السيد الطباطبائي: قوله تعالى "قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ" (الزمر 53) في الآيات أمره صلى الله عليه وآله وسلم أن يدعوهم إلى الإسلام و اتباع ما أنزل الله و يحذرهم عما يستعقبه إسرافهم على أنفسهم من الحسرة و الندامة يوم لا ينفعهم ذلك مع استكبارهم في الدنيا على الحق و الفوز و النجاة يومئذ للمتقين و النار و الخسران للكافرين، و في لسان الآيات من الرأفة و الرحمة ما لا يخفى. و يناديهم بلفظة يا عبادي و فيه تذكير بحجة الله سبحانه على دعوتهم إلى عبادتهم و ترغيب لهم إلى استجابة الدعوة أما التذكير بالحجة فلأنه يشير إلى أنهم عباده و هو مولاهم و من حق المولى على عبده أن يطيعه و يعبده فله أن يدعوه إلى طاعته و عبادته، و أما ترغيبهم إلى استجابة الدعوة فلما فيه من الإضافة إليه تعالى الباعث لهم إلى التمسك بذيل رحمته و مغفرته. و قوله: "الذين أسرفوا على أنفسهم" (الزمر 53) الإسراف على ما ذكره الراغب تجاوز الحد في كل فعل يفعله الإنسان و إن كان ذلك في الإنفاق أشهر، و كان الفعل مضمن معنى الجناية أو ما يقرب منها و لذا عدي بعلى و الإسراف على النفس هو التعدي عليها باقتراف الذنب أعم من الشرك و سائر الذنوب الكبيرة و الصغيرة على ما يعطيه السياق. و قوله: "لا تقنطوا من رحمة الله" (الزمر 53) القنوط اليأس، و المراد بالرحمة بقرينة خطاب المذنبين و دعوتهم هو الرحمة المتعلقة بالآخرة دون ما هي أعم الشاملة للدنيا و الآخرة و من المعلوم أن الذي يفتقر إليه المذنبون من شئون رحمة الآخرة بلا واسطة هو المغفرة فالمراد بالرحمة المغفرة و لذا علل النهي عن القنوط من الرحمة بقوله: "إن الله يغفر الذنوب جميعا" (الزمر 53). و في الآية التفات من التكلم إلى الغيبة حيث قيل: "إن الله يغفر" و لم يقل: إني أغفر و ذلك للإشارة إلى أنه الله الذي له الأسماء الحسنى و منها أنه غفور رحيم كأنه يقول لا تقنطوا من رحمتي فإني أنا الله أغفر الذنوب جميعا لأن الله هو الغفور الرحيم. و قوله: "إن الله يغفر الذنوب جميعا" (الزمر 53) تعليل للنهي عن القنوط و إعلام بأن جميع الذنوب قابلة للمغفرة فالمغفرة عامة لكنها تحتاج إلى سبب مخصص و لا تكون جزافا، و الذي عده القرآن سببا للمغفرة أمران: الشفاعة و التوبة لكن ليس المراد في قوله: "إن الله يغفر الذنوب جميعا" (الزمر 53) المغفرة الحاصلة بالشفاعة لأن الشفاعة لا تنال الشرك بنص القرآن في آيات كثيرة و قد مر أيضا أن قوله: "إن الله لا يغفر أن يشرك به و يغفر ما دون ذلك لمن يشاء" (النساء 48) ناظر إلى الشفاعة و الآية أعني قوله: "إن الله يغفر الذنوب جميعا" (الزمر 53) موردها الشرك و سائر الذنوب.
جاء في الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل للشيخ ناصر مكارم الشيرازي: إبراهيم عليه السلام طمأنهم بعدم دخول اليأس من رحمة الله إليه، وإنما هو في أمر تلك القدرة التي تجعل من اختراق النواميس الطبيعية أمر حاصل وبدون الخلل في الموازنة، "قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ" ﴿الحجر 56﴾. إن الضالين هم الذين لا يعرفون الله وقدرته المطلقة، الله الذي خلق الانسان ببناءه العجيب المحير من ذرة تراب ومن نطفة حقيرة ليخرجه ولدا سويا، الله الذي حول نخلة يابسة إلى حاملة للثمر بإذنه، الله الذي جعل النار بردا وسلاما هل من شك بأنه سبحانه قادر على كل شئ، بل وهل يصح ممن آمن به وعرفه حق معرفته أن ييأس من رحمته؟ آخر آية من الآيات محل البحث، فهي ترسم طريقة تفكير وروحية هؤلاء الجهلة الأغبياء الذين يقنطون ويحزنون لأقل مصيبة، فتقول: "وإذا أذقنا الناس رحمة فرحوا بها وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم إذا هم يقنطون" (الروم 36). في حين أن المؤمنين الصادقين هم الذين لا يغفلون عن ذكر الله عند النعم، ولا يقنطون عند الشدائد والمصيبة، إذ هم يشكرون الله على نعمه، ويرون المصيبة امتحانا واختبارا، أو يعدونها نتيجة أعمالهم، فيصبرون ويتجهون إلى الله تعالى. فالمشركون يعيشون دائما بين (الغرور) و (اليأس)، أما المؤمنون فهم بين (الشكر) و (الصبر). ويستفاد ضمنا من هذه الآية بصورة جيدة أن قسما من المصائب والابتلاءات التي تحل بالإنسان هي على الأقل نتيجة أعماله وذنوبه، فالله يريد أن ينبههم ويطهرهم ويلفتهم إليه. وينبغي الالتفات إلى أن جملة فرحوا بها ليس المراد منها هنا السرور بالنعمة فحسب، بل السرور المقرون بالغرور ونوع من السكر والنشوة، وهي الحالة التي يكون عليها الأراذل عندما تتهيأ لهم وسائل العيش والحياة، وإلا فإن السرور المقرون بالشكر والتوجه نحو الله ليس أمرا سيئا، بل هو مأمور به "قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا" (يونس 58).
https://telegram.me/buratha