الدكتور فاضل حسن شريف
جاء في كتاب تطوّر البحث الدّلالي للدكتور محمد حسين علي الصّغير عن الزيارة: ما أراد به الإيحاء الخاص الكامن وراء دلالة اللفظ فإنه يختار بذاته لتلك الدلالة بذلك الإيحاء ولو دققت النظر في استعمال لفظ (زرتم) في سورة التكاثر "حَتَّىٰ زُرْتُمُ المَقَابِرَ" (التكاثر 2) لتبين لنا أن القرآن لم يستعمل الزيارة إلا في هذه الآية وإنه استعمل مادتها في آيات أُخر، وهذا الاستعمال يوحي بدلالة حسبة قد لا ينبئ عنها ظاهر اللفظ، ومركزي المعنى بقدر ما يصوره إيحائي التعبير الدقيق، ويبدو أن أعرابياً مرهف الحس قد التفت إلى هذا الملحظ الشاخص فقال حينما سمع الآية على فطرته الصحراوية، وبوحي من بداوته الصافية قال: (بعث القوم للقيامة ورب الكعبة، فإن الزائر منصرف لا مقيم).
ويقول الدكتور الصغير رحمه الله عن السجع في القرآن: هناك سور متوسطة الطول والقصر وقد تناوبها السجع من أولها إلى آخرها كما هي الحال ـ على سبيل الأنموذج في سورة الأعلى. إن هذه السورة ولنتبرك بذكرها كاملةً: (بسم الله الرحمن الرحيم) "سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّىٰ (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَىٰ (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ المَرْعَىٰ (4) فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَىٰ (5) سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَىٰ (6) إِلا مَا شَاءَ اللهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الجَهْرَ وَمَا يَخْفَىٰ (7) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَىٰ (8) فَذَكِّرْ إِن نَفَعَتِ الذِّكْرَىٰ (9) سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَىٰ (10) وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الكُبْرَىٰ (12) ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَىٰ (13) قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّىٰ (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّىٰ (15) بَلْ تُؤْثِرُونَ الحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ (17) إِنَّ هَٰذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَىٰ (18) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ (19)" (الأعلى 1-19). مما وقف عنده العرب موقف المتحير المتعجب بوقت واحد فهي على وتيرة واحدة في فاصلة متساوية تختتم بالألف، ومن أولها إلى نهايتها، ولو شئت أن تغير أية كلمة من هذه الفواصل، وتضع ما يلائمها بدلها في سبيل تغيير صيغة الفاصلة لما استطعت أن تحقق الدلالة اللفظية. وهنا ونحن في هذا السياق أود أن أشير إلى صيغة تنسجم مع هذا العرف الذي نتحدث عنه بإيجاز، هذه الصّيغة هي كلمة "المقابر" في قوله تعالى "أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّىٰ زُرْتُمُ المَقَابِرَ (2)" (التكاثر 1-2) لا أدعي أن اتفاق الفاصلة عند الراء في كلمتي التكاثر والمقابر، تفرضه طبيعة النسق القرآني في التعبير المسجوع كما يتخيل، بدليل أنه ينتقل منه فوراً إلى فاصلة تقف عند النون دون التفات إلى الصيغة الأولى الساربة في طريقها فيقول: "كَلا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4)" (التكاثر 3-4)، فإذا جاز له الانتقال بها جاز له الانتقال فيما قبلها مباشرة كما هو ظاهر، بل إن هذا اللفظ "المقابر" يفرض نفسه فرضاً قاطعاً، وذلك أن هذا الإنسان المتناسي الطاغي المتكاثر بأمواله ولذاته، وشهواته، ومدخراته، ونسائه، وأولاده، ودوره، وقصوره وخدمه وحشمه، وإداراته وشؤونه، وهذا كله تكاثر قد يصحبه التفاخر، والتنابز، والتنافر، إن هذا مما يناسبه "المقابر" وهي جمع مقبرة، والمقبرة الواحدة لا سيّما المترامية الأطراف مرعبة هائلة. فإذا ضممنا مقبرة أخرى ومقبرة مثلها ازددنا إيحاشاً ورعباً وفزعاً، فإذا أصبحت مقابر عديدة، تضاعف الرعب والرهب، إذن هذا التكاثر الشهواني في كل شيء، يناسبه ويوافقه الجمع المليوني للقبور، لتصبح مقابرَ لا قبوراً ولو قيل في غير القرآن بمساواة القبور للمقابر في الدلالة لما سد هذا الشاغر الدلالي شيء آخر من الألفاظ.
وعن اختيار الألفاظ يقول الاستاذ محمد حسين الصغير في كتابه: إن اختيار هذه الألفاظ إنما اتّجه بالخطاب إلى سكان الأرض الذين يهمهم أمرها ليتعرفوا على ما فيها عقلياً، ويتطلعوا إلى كشف أسرارها علمياً، بحسب الذائقة الفطرية الخالصة التي تبدو بأدنى تأمل وتلبث وترصد، وهنا نضع أيدينا على جملة من التعابير القرآنية بألفاظ لها دلالتها الهامشية إن لم نقل المركزية في كثير من الأبعاد النقدية والبلاغية زائداً العلمية: أ ـ ففي قوله تعالى: "أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا" (الانبياء 44) يتجلى موقع (أطراف) "ننقصها" في التعبير، فالأطراف توحي بنظرة شمولية لشكل الأرض، و "ننقصها" توحي بفكرة آلية عن طبيعة انتقاص الأطراف وهاتان حقيقتان علميتان بنظرية دحو القطبين وحركتهما يوضحهما قوله تعالى: "لا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ" (يس 40). ب ـ وفي قوله تعالى "وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّىٰ إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللهُ سَرِيعُ الحِسَابِ" (النور 39). (ففي هذه الصورة الأخاذة يتجلى سطح الصحراء العربية المنبسطة، والخداع الوهمي للسراب، فنحن هنا أمام عناصر مجاز عربي النوع، فأرض الصحراء وسماؤها قد طبعا عليه انعكاسهما ... حين نستخدم خداع السراب المغم، لنؤكد بما تلقيه من خلال تبدد الوهم الهائل، لدى إنسان مخدوع، ينكشف في نهاية حياته غضب الله الشديد في موضوع السراب الكاذب سراب الحياة)، فلفظ "سراب" استقطب مركزياً دلالته من خلال البيئة العربية المشاهدة المحسوسة، وكما يتلاشىٰ هذا السراب فجأة، وينطفي تلألؤه بغتة، فكذلك ما أمله هؤلاء الكافرون بأعمالهم الخادعة، متماثلة معه في خداع البصر وانطماس الأثر، فلو عطفنا دلالة "الظمآن" الإيحائية، لوجدنا الظمآن في تطلبه للماء، ووصوله إلى السراب يقضي حسرة أشد، وفاقة أعظم، وحاجة متواصلة، ولكنه يصطدم بالحقيقة الكبرىٰ وهي الله تعالىٰ، فيوفّيه حسابه، دون معادلات معروفة، فلا المراد حقق، ولا الحياة استبقى ولا الثواب استقصى، وإنما هي حسرات في حسرات. ح ـ ولو تتبعنا مآل هؤلاء الكافرين في خيبة آمالهم وخسران أعمالهم، لوجدنا الصورة المتقابلة مع تلك الصورة بقوله تعالى: "أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ" (النور 40)، ليتضح في التصوير القرآني عظم الدلالة من خلال هيأتين متقابلتين ونموذجين مختلفين، فبعد أن أوضحت الصورة الفنية الأولىٰ الشعاع الكاذب في السراب والالتماع الخلب في البيداء، عقبت ذلك بنقيض الشعاع والالتماع وبعد تصوير الخيبة من الظفر بالسناء، عقبته بالظلمات المتراكمة بعضها فوق بعض والفوقيات المتراكبة طبقاً عن طبق فهي ظلمات في بحر لا قعر له، عميق غزير المياه، تحوطه الأمواج المتدافعة، والسحب الثقال، والظلمات المتعاقبة في ثلاثة مظاهر من ظلام الليل، وظلام الغمام، وظلام البحر حتى ليخطؤه تمييز يده، فلا يرىٰ ذلك إلا بعد عسر وحرج، أو لا يرىٰ ذلك أصلاً، وأنىٰ له الرؤية، وقد انغمس في ظلمات الكفر وارتطم بمتاهات الضلال، فانعدمت الرؤية وانطمست البصيرة، فهو في شبهات لا نجاة معها، ومن لم يقدر له الخلاص من الله فلا خلاص له.
ويستطرد الدكتور محمد حسين علي الصغير قائلا: ومن هذا المنطلق فقد وجدنا الخطابي (ت: 388 ه) بالذات عالماً ودلالياً فيما أورده من افتراضات، وما أثبته من تطبيقات بالنسبة لجملة من ألفاظ القرآن الكريم بتقرير أنها لم تقع ما زعموا توهماً في أحسن وجوه البيان وأفصحها، لمخالفتها لوضعي الجودة والموقع المناسب عند أصحاب اللغة، وذلك كدعوىٰ افتراضية، يتعقبها بالرد والكشف والدفاع. والألفاظ هي كما يلي نذكرها ونعقبها في آياتها في موارد اختيارها من قبل الخطابي نفسه ليرد عليها فيما بعد: 1 ـ فأكله، من قوله تعالىٰ: "فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ" (يوسف 17). 2 ـ كيل، من قوله تعالىٰ: "ذَٰلِكَ كَيْلٌ يَسِير" (يوسف 65). 3 ـ امشوا، من قوله تعالىٰ: (وَانطَلَقَ المَلأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا" (ص 6). 4 ـ هلك، من قوله تعالىٰ: "هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ" (الحاقة 29). 5 ـ لحب، من قوله تعالىٰ: "وَإِنَّهُ لِحُبِّ الخَيْرِ لَشَدِيدٌ" (العاديات 8). 6 ـ فاعلون، من قوله تعالىٰ: "وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ" (المؤمنون 4). 7 ـ سيجعل، من قوله تعالىٰ: "إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَٰنُ وُدًّا" (مريم 96). 8 ـ ردف، من قوله تعالىٰ: "قُلْ عَسَىٰ أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ" (النمل 72). أ ـ "وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلحَادٍ بِظُلْمٍ" (الحج 25). ب ـ "أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ" (الاحقاف 33). هذه النماذج التي أبانها الخطابي تعقب عادة بالحجج المدعاة أولاً فيوردها، ولكنه يفندها واحدة كما سنرى. فقد ذهبوا في فعل السباع خصوصاً إلى الافتراس، وأما الأكل فهو عام لا يختص به نوع من الحيوان. وقالوا ما اليسير والعسير من الكيل والاكتيال وما وجه اختصاصه به؟ وقد زعموا بأن المشي في هذا ليس بأبلغ الكلام، ولو قيل بدل ذلك أن امضوا وانطلقوا لما كان أبلغ وأحسن وأدعوا إنما يستعمل لفظ الهلاك، في الأعيان والأشخاص كقوله: هلك زيد، فأما الأمور التي هي معان وليست بأعيان ولا أشخاص فلا يكادون يستعملونه فيها. وأنت لا تسمع فصيحاً يقول: أنا لحب زيد شديد وإنما وجه الكلام وصحته أن يقال: أنا شديد الحب لزيدٍ وللمال. ولا يقول أحد من الناس فعل زيد الزكاة، وإنما يقال زكّى الرجل ماله. ومن الذي يقول: جعلت لفلان وداً بمعنى أحببته؟ وإنما يقول: وددته وأحببته. وفي ردف إنما هو يردفه من غير إدغام اللام، والباء لا موضع لها في الحاد أو بظلم، ولو قيل: قادر على أن يحيي الموتى كان كلاماً صحيحاً لا يشكل معناه ولا يشتبه.
https://telegram.me/buratha