الدكتور فاضل حسن شريف
جاء في كتاب تطوّر البحث الدّلالي للدكتور محمد حسين علي الصّغير عن الخطابي وفهم القرآن بلاغيا: قد حررت للخطابي مقارنة سليمة في الإجابة عن هذه الافتراضات رداً ومناقشة وبيان حال، وسأحاول أن ألخصها بشكل لا تفقد فيه جوهرها، وأوردها بصورة تحكي عن هدف صاحبها ولعل في ذكرها تخليداً لذكراه، ولكن فيها أيضاً وأولاً، بياناً لطاقات بيانية مهمة واستعمالات بلاغية رائدة، انفرد بها القرآن دون سائر النصوص الإلهية والبشرية، مما يجعل الخطابي رحمهالله من أوائل أولئك الأفذاذ الذين يسروا الطريق أمام فهم القرآن بلاغياً ونقدياً على الوجه التالي: 1 ـ فأما قوله تعالى "فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ" (يوسف 17)، فإن الافتراس معناه في فعل السبع القتل فحسب، واصل الفرس دق العنق، والقوم إنما أدعوا على الذئب أنه أكله أكلاً، وأتى على جميع أجزائه وأعضائه فلم يترك مفصلاً ولا عظماً، وذلك أنهم خافوا مطالبة أبيهم بأثر باق منه يشهد بصحة ما ذكروه، فادعوا فيه الأكل ليزيلوا عن أنفسهم المطالبة، والفرس لا يعطي تمام هذا المعنى، فلم يصلح على هذا أن يعبر عنه إلا بالأكل على أن لفظ الأكل شائع الاستعمال في الذئب وغيره من السباع. وحكىٰ ابن السكيت في ألفاظ العرب قولهم: أكل الذئب الشاة فما ترك منها تامورا. 2 ـ وأما قوله تعالى "وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَٰلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ" (يوسف 65). فإن معنى الكيل المقرون بذكر البعير والمكيل، والمصادر توضع موضع الأسماء كقولهم: هذا درهم ضرب الأمير، هذا ثوب نسيج اليمن، أي مضروب الأمير، ونسيج اليمن والمعنى في الآية: أنا نزداد من الميرة المكيلة إذا صحبنا أخونا حمل بعير، فإنه كان لكل رأس منهم حمل واحد لا يزيد على ذلك لعزة الطعام، فكان ذلك في السنين السبع المقحطة، وكانوا لا يجدون الطعام إلا عنده ولا يشير لهم صراحة إلا من قبله، فقيل على هذا المعنى "ذَٰلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ" (يوسف 65). أي متيسر لنا إذا تسببنا إلى ذلك باستصحاب أخينا، واليسير شائع الاستعمال فيما يسهل من الأمور كالعسير مما يتعذر منها ولذلك قيل: يسر الرجل. وقد قيل: إن معنى الكيل هنا السعر، أخبرني أبو عمرو عن ابن العباس قال: الكيل بمعنى السعر، فكيف الكيل عندكم ؟ بمعنى كيف السعر؟ 3 ـ وأما قوله سبحانه "أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَىٰ آلِهَتِكُمْ" (ص 6). وقول من زعم أنه لو قيل بدله: امضوا وانطلقوا كان أبلغ فليس الأمر على ما زعمه، بل امشوا في هذا المحل أولىٰ وأشبه بالمعنىٰ وذلك لأنه إنما قصد به الاستمرار على العادة الجارية ولزوم السجية المعهودة في غير انزعاج منهم، ولا انتقال عن الأمر الأول، وذلك أشبه بالثبات والصبر المأمور به في قوله "وَاصْبِرُوا عَلَىٰ آلِهَتِكُمْ" (ص 6). والمعنى كأنهم قالوا: امشوا على هينتكم وإلىٰ مهوىٰ أموركم، ولا تعرجوا على قوله ولا تبالوا به، وقيل بل المشي ها هنا معناه التوفر في العدد والاجتماع للنصرة دون المشي الذي هو نقل الأقدام.
ويستمر الدكتور الصغير رحمه الله متحدثا عن بلاغة القرآن للخطابي: 4 ـ وأما قوله سبحانه "هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ" (الحاقة 29)، وزعمهم أن الهلاك لا يستعمل إلا في تلف الأعيان فإنهم ما زادوا أن عابوا أفصح الكلام وأبلغه، وقد تكون الاستعارة في بعض المواضع أبلغ من الحقيقة كقوله عزّ وجلّ "وَآيَةٌ لَّهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ" (يس 37). والسلخ ها هنا مستعار هو ابلغ منه لو قال نخرج منه النهار وإن كان هو الحقيقة، وكذلك قوله "فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ" (الحجر 94)، وهو أبلغ قوله فأعمل بما تؤمر وإن كان هو الحقيقة، والصدع مستعار، وكذلك قوله "هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ" (الحاقة 29)، وذلك أن الذهاب قد يكون على مراصده العودة، وليس مع الهلاك بقيا ولا رجعىٰ، وقد قيل إن معنى السلطان ها هنا الحجة والبرهان. 5 ـ وأما قوله سبحانه "وَإِنَّهُ لِحُبِّ الخَيْرِ لَشَدِيدٌ" (العاديات 8)، وأن الشديد معناه ها هنا البخيل، واللام في قوله (لحب الخير) بمعنى لأجل حب الخير وهو المال لبخيل. 6 ـ وأما قوله عزّ وجلّ "وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ" (المؤمنون 4)، وقولهم إن المستعمل في الزكاة المعروف من الألفاظ، كالأداء، والإيتاء، والإعطاء. فالجواب إن هذه العبارات لا تستوي في مراد هذه الآية، وإنما تفيد حصول الاسم فقط، ولا تزيد على أكثر من الأخبار على أدائها فحسب، ومعنى الكلام ومراده المبالغة في أدائها والمواظبة عليه حتى يكون ذلك صفة لازمة لهم فيصير في أداء الزكاة فعلاً لهم مضافاً إليهم يعرفون به، فهم له فاعلون، وهذا المعنى لا يستفاد على الكمال إلا بهذه العبارة، فهي إذن أولى العبارات وأبلغها في هذا المعنى. 7 ـ وأما قوله عزّ وجلّ "سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَٰنُ وُدًّا" (مريم 96)، وإنكارهم قول من يقول: جعلت لفلان وُدّاً، بمعنى وددته فإنهم قد غلطوا في تأويل هذا الكلام، وذهبوا عن المراد منه، وإنما المعنى أن الله سيجعل لهم في قلوب المؤمنين، أي يخلق لهم في صدور المؤمنين، ويغرس لهم فيها محبة كقوله عزّ وجلّ "وَاللهُ جَعَلَ لَكُم مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا" (النحل 72)، أي خلق. 8 ـ وأما قوله سبحانه "رَدِفَ لَكُم" (النمل 72)، فإنهما لغتان فصيحتان: ردفته وردفت له كما نقول نصحته، ونصحت له. 9 ـ وأما قوله "وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلحَادٍ بِظُلْمٍ" (الحج 25)، ودخول الباء فيه فإن هذا الحرف كثيراً ما يوجد في كلام العرب الأول الذي نزل القرآن به، وإن كان يعز ووده في كلام المتأخرين، قال أبو عمرو بن العلاء: اللسان الذي نزل به القرآن، وتكلمت به العرب على عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم عربية أخرىٰ عن كلامنا هذا. نقول: قد قيل إن الباء زائدة، والمعنى: ومن يرد فيه إلحاداً والباء قد تزاد في مواضع من الكلام، ولا يتغير به المعنى، وعليه شواهد من كلام العرب.
https://telegram.me/buratha