الدكتور فاضل حسن شريف
جاء في كتاب مصباح المنهاج: الإجتهاد و التقليد للسيد محمد سعيد الطباطبائي الحكيم: قوله تعالى: "فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ" (النحل 43) فإنه ظاهر في أن وظيفة الجاهل السؤال من العالم، والمنصرف إرادة السؤال للعمل، فيكشف عن حجية الجواب، كما يناسبه ظهور القضية في إمضاء سيرة العقلاء المشار إليها آنفا، لورود ها في مقام الاحتجاج على الكفار، وإبطال زعمهم في امتناع بعث البشر، فإن مقام الاحتجاج لا يناسب اللجوء إلى القضايا التعبدية المحضة، بل لابد من الركون للقضايا الارتكازية العامة، التي لا يتسنى للخصم إنكارها. لكن يشكل الاستدلال بها لأمرين: الأول: أنه لا يظهر منها كون السؤال لأجل العمل، لتكشف عرفا عن حجية الجواب، بل لعل الظاهر منها كون السؤال لأجل تحصيل العلم، لان ظاهرها الإنكار عليهم، لامتناعهم من القبول والإذعان بجواز بعث الرسل من البشر، ومن الظاهر أن مثل هذا الأمر مما يخص العلم به بالرجوع لعلماء أهل الكتاب، لكثرتهم، واتفاقهم، وتصديق المشركين لهم، واحترامهم في نفوسهم، مع عدم كونهم من أتباعه صلى الله عليه وآله حتى يحتمل مجاراتهم له في الجواب، خصوصا مع ورود الآية في مقام يحتاج فيه إلى العلم، وهو أصول الدين، كما نبه له شيخنا الأعظم قدس سره. الثاني: أنه لابد من رفع اليد عن ظهور الآية، البدوي في إرادة مطلق العلماء من أهل الذكر، بالنصوص الكثيرة الظاهرة، بل الصريحة في اختصاص أهل الذكر بالأئمة عليهم السلام وعدم شمولها لغيرهم بالنحو الذي ينفع في ما نحن فيه، كصحيح محمد بن مسلم، عن أبي جعفر عليهم السلام قال: (إن من عندنا يزعمون أن قول الله عز وجل: "فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ" (النحل 43) إنهم اليهود والنصارى. قال: إذا يدعوكم إلى دينهم. قال: قال بيده إلى صدره: نحن أهل الذكر، ونحن المسؤولون) ونحوه غيره. وقد تضمن بعضها أن النبي صلى الله عليه وآله هو الذكر، والأئمة عليهم السلام أهله، فلابد من رفع اليد عن قرينة السياق بذلك. ودعوى: أن ذلك من التفسير بالباطن الذي لا يمنع من حجية الظهور. مدفوعة: بأن التفسير بالباطن إنما لا ينافي حجية الظهور إذا لم يرد مورد الردع عنه، كما تضمنته النصوص المذكورة مع أن كون التفسير المذكور من التفسير بالباطن محل إشكال، ولعله لا يناسب مساق النصوص المذكورة. ومما ذكرنا يظهر اندفاع ما ذكره بعض مشايخنا من أن ذلك من باب تطبيق الكلي على مصداقه، فلا ينافي عمومه لغيره، وقد ورد عنهم عليهم السلام: (انه لو ماتت الآية بموت من نزلت فيه لمات القرآن، وأن القرآن يجري مجرى الشمس والقمر). وجه الاندفاع: أن ظاهر النصوص المذكورة ليس محض تطبيق أهل الذكر عليهم عليهم السلام، ولا نزولها فيهم عليهم السلام، بل تخصيصها بهم علهم السلام، كما تقدم، فتكون كسائر الآيات المختصة بهم، كآيات المودة، والولاية، والتطهير وغيرها، التي لا يلزم موتها، لأنهم عليهم السلام باقون ما بقي القرآن مرجعا للناس، وحجة عليهم.
جاء في كتاب اصول العقيدة للسيد محمد سعيد الحكيم قدس سره: التوحيد أمر فطري ارتكازي: وهو أمر قد فطر الإنسان عليه مهما كابر وغالط، وقد تركز في أعماق نفسه وانطوى عليه ضميره بطبعه من دون تكلف، ولا حاجة للاستدلال. ويبدو إذعان الجاحد به المكابر فيه عندما تحيط به المشاكل والمخاطر ويضيق به، فينهار أمامه، ويفقد السيطرة على نفسه، فلا يقوى على كتمان ما انطوت عليه، وينسى مكابرته وجحوده، ويتجه لاإرادياً لهذا المدبر القادر، ويلجأ إليه في محنته وكأنه حاضر عنده لا يغيب عنه مخاطباً له طالباً نجدته. قال الله تعالى: "وَمَا بِكُم مِن نِعمَةٍ فَمِن الله ثُمَّ إذَا مَسَّكُم الضُّرُّ فَإلَيهِ تَجأرُونَ* ثُمَّ إذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنكُم إذَا فَرِيقٌ مِنكُم بِرَبِّهِم يُشرِكُونَ" (النحل 53-54). وفي الحديث: (قال رجل للصادق عليه السلام: يا ابن رسول الله دلّني على الله ما هو؟ فقد أكثر عليّ المجادلون وحيروني. فقال له: يا عبد الله هل ركبت سفينة قط؟ قال: نعم. قال: فهل كسرت بك حيث لا سفينة تنجيك ولا سباحة تغنيك؟ قال: نعم. قال: فهل تعلق قلبك هناك أن شيئاً من الأشياء قادر على أن يخلصك من ورطتك؟ قال: نعم. قال الصادق عليه السلام: فذلك الشيء هو الله القادر على الإنجاء حيث لا منجي، وعلى الإغاثة حيث لا مغيث). صدق النبي في دعوى النبوة دالّ على التوحيد. أضف إلى ذلك أن التوحيد قد تبناه بإصرار دين الإسلام العظيم الذي جاء به نبينا الأمين صلى الله عليه وآله وسلم، فكلما دلّ على صدق النبي صلى الله عليه وآله وسلم في نبوته وفيما بلّغ به مما يأتي في محله إن شاء الله تعالى يدلّ على التوحيد، لأنه أساس دين الإسلام، وأول أمر ادعاه صلى الله عليه وآله وسلم ودعا الناس إلى الإقرار به، وعليه أكد القرآن المجيد الذي هو معجزته الخالدة. كما لا يخفى. بل هو مما تبنته الأديان السماوية جميع، وحتى بعض الأديان الأخرى. وأما ما اعتنقته بعض الطوائف المسيحية من التثليث، فمن البعيد جداً رجوعه إلى تعدد الخالق المدبر للكون. بل الظاهر رجوعه إلى أن الخالق الواحد قد اتحد مع الأقانيم، فاستحق الكل العبادة. وإن كان تحديد مرادهم في غاية الإشكال. على أن الظاهر أن عقيدة التثليث طارئة على المسيحية، والأمر ليس بمهم بعد ما سبق. ومع كل ذلك فيحسن بنا الاستدلال على التوحيد تأكيداً للحجة، وقطعاً للمعاذير، ولسدّ الطريق على المكابر والمعاند. وينحصر الدليل عليه ـ بعد ما سبق ـ بالعقل، الذي تقدم في التمهيد التنبيه لأهميته، وأن عليه المدار، وأنه الحجة الباطنة، كما تضمنته الأخبار. ومن الظاهر أن التوحيد يرجع إلى أمرين: إثبات الخالق، وأنه واحد لا شريك له، فالكلام فيه يقع في فصلين.
وعن كتاب اصول العقيدة للسيد محمد سعيد الحكيم قدس سره: قصة الوليد بن المغيرة مع القرآن المجيد: وقد رووا أن الوليد بن المغيرة جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال له: اقرأ عليّ. فقرأ عليه: "إنَّ اللهَ يَأمُرُ بِالعَدلِ وَالإحسَانِ وَإيتَاءِ ذِي القُربَى وَيَنهَى عَن الفَحشَاءِ وَالمُنكَرِ وَالبَغيِ يَعِظُكُم لَعَلَّكُم تَذَكَّرُونَ" (النحل 90). فقال: أعد. فأعاد. فقال: (والله إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق. وما يقول هذا بشر). وعن شمولية نظام الكون ودقته وروعته: ويزيد في تجلي هذه الحقيقة العظيمة ووضوحها هو دقة الصنع وإتقانه، وتناسقه وإحكامه، وروعة الكون وشمولية نظامه، وما فيه من طرف وعجائب، بنحو يبهر العقول ويحيّر الألباب، ويضطر العاقل للبخوع والإذعان، لا بوجود الخالق المدبر فحسب، بل بعظمته وحكمته، وقدرته المطلقة وإحاطته. وابدأ في الملاحظة والتدبّر بالإنسان في تطوره من مبدأ خلقه إلى منتهى حياته، ودقائق جسده، وإدراكه ومنطقه، وعواطفه وانفعالياته، وغرائزه وعقله، ومرضه وشفائه. إلى غير ذلك. ثم توجه في مثل ذلك إلى الحيوان إلى النبات إلى الماء والهواء إلى الأنهار والبحار إلى السهول والجبال إلى الغلاف الجوي إلى الكواكب السابحة في الفضاء إلى ما لا يحصى من آيات مذهلة، وبدائع خلقة مروعة، تخرس ألسنة المعاندين، ولا تدع لقائل مقال. وَفِي كُلّ شَيءٍ لَهُ آيَةٌ * تَدُلُّ عَلى أنهُ واحِدُ. نماذج من العرض القرآني لآيات الله تعالى: قال عزّ من قائل: "وَإنَّ لَكُم فِي الأنعَامِ لَعِبرَةً نُسقِيكُم مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِن بَينِ فَرثٍ وَدَمٍ لَبَناً خَالِصاً سَائِغاً لِلشَّارِبِينَ* وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأعنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنهُ سَكَراً وَرِزقاً حَسَناً إنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَومٍ يَعقِلُونَ * وَأوحَى رَبُّكَ إلَى النَّحلِ أن اتَّخِذِي مِن الجِبَالِ بُيُوتاً وَمِن الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُختَلِفٌ ألوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَومٍ يَتَفَكَّرُونَ" (النحل 66-69) إلى غير ذلك من آيات الله تعالى الباهرة، ونعمه الباطنة والظاهرة، التي تعرضت لها الآيات الكريمة، والأحاديث الشريفة، ويدركها عامة الناس وخاصتهم.
جاء في كتاب اصول العقيدة للسيد محمد سعيد الحكيم قدس سره: ينبغي الاهتمام بوضوح الحجة لا بإقناع الخصم: أن لا يهتم الباحث عند النظر في الأدلة بإقناع خصمه أو إسكاته بقدر اهتمامه بإدلاء حجته بين يدي الله عزّ وجلّ "يَومَ تَأتِي كُلُّ نَفسٍ تُجَادِلُ عَن نَفسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفسٍ مَا عَمِلَت وَهُم لاَ يُظلَمُونَ" (النحل 111). حيث يقف بين يديه تعالى فرداً لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضر، ولا يملك من وسائل السلامة إلا دليله وحجته. وهو سبحانه اللطيف الخبير، لا يعجزه معرفة الدليل القويم من الدليل السقيم، ولا تنفع معه المكابرات والمغالطات. ثم هو الحاكم القاهر، والجازي بالعدل، أفضل الثواب، أو أشد العقاب. فإن ذلك يحمل الباحث على أن يحكم أمره، وينظر في الأدلة والحجج بعقله ووجدانه، مجرداً عن كل شائبة، ليكون دليله ركنه الوثيق وصمام الأمان له يوم العرض الأكبر. وأما من لم يذعن بعد بوجود الله عزّ وجلّ، وبوعده بالبعث والحساب، والثواب والعقاب، فلا أقل في حقه من احتمال وجود الله عزّ وجل، ولا طريق له لإنكاره من دون نظر في الأدلة. بل يقضي عقله بفطرته بالتحفظ والاحتياط في ذلك بالنظر في الأدلة بموضوعية كاملة، من دون لجاجة وعناد. ليأمن من الهلكة والخسران الدائم. ولاسيما مع ما نبّه له الإمام الصادق عليه السلام في حديثه مع بعض الزنادقة، حيث قال له: (إن يكن الأمر كما تقول وليس كما تقول نجونا ونجوت، وإن كان الأمر كما نقول وهو كما نقول نجونا وهلكت). أما الاهتمام بإقناع الخصم فهو لا يضمن الوصول للحقيقة والخروج عن المسؤولية إزاءه، لأن الخصم قد يكون من السذاجة بحيث يقتنع بأضعف الأدلة، وقد يكون من العناد والتعصب بحيث لا يقتنع بأقوى الأدلة، بل قد يحاول الالتفاف عليها إذا كان متمرساً في الخصام والجدل. نعم بعد الوصول للحقيقة من طريق الاستدلال السليم والحجة الواضحة، وحصول القناعة بها نتيجة لذلك، يحسن الاهتمام بإقناع الخصم رغبة في هدايته، أو إسكاته دفعاً لشره وتهريجه. هذه نصيحتنا للباحث عن الحقائق الدينية، بل عن كل حقيقة. ونأمل به أن يرعاها في حديثنا هذا في مراحله المختلفة. كما نبتهل إلى الله جلّ شأنه في أن يسددنا في ذلك، من أجل إيضاح الحقيقة لطالبها وإيصاله له. وأن يبعدنا عن المغالطات والمكابرات، والمراء والخصومات. إنه خير معين ودليل، وهو الهادي إلى سواء السبيل. وحيث انتهى الكلام في هذا التمهيد إلى أهمية العقل، ولزوم تحكيمه في الحقائق الدينية بموضوعية كاملة، فيقع الكلام في المقام في مقدمة يبحث فيها عن أمور تنفع في تحديد وظيفة المكلف إزاء الدين والنظر فيه. ثم في مقاصد يبحث فيها عن أصول الدين التي يجب الاعتقاد به، وعن أدلته. ثم في خاتمة يبحث فيها عن بعض الأمور المتعلقة بذلك، التي كثر الحديث حولها من الأولياء والخصوم، حتى قد تساق شبهاً تمنع من الركون لبعض الحقائق الدينية التي قامت الأدلة الواضحة عليه. ونسأل الله سبحانه أن يعيننا على إنجاز ذلك وإكماله، على أفضل الوجوه وأتمه. بمنّه وجوده وكرمه.
https://telegram.me/buratha