مصطفى الهادي.
دراسة لبعض الجوانب الخفيّة.
لم يُظلم سلمان الفارسي من قبل بعض الصحابة ، بل أن عذابه وظلمه سبق الإسلام على أيدي أمم وأقوام وأفراد. ففي رحلته من أصفهان إلى الجزيرة العربية التفافا على تركيا ثم سوريا، وقطعه لمسافات شاسعة وتعرضه لما تعرض له من عذاب ومشقه وعيشه مع عدد من الرهبان حيث قيل أنه اعتنق المسيحية لأنه رآها افضل من الزرادشتية. ثم الغدر به في الطريق وبيعه كعبد، كأن ذلك لا يكفيه ، فقام النصارى بسرقة هذه الرحلة وحوروها بطريقة زعموا فيها أن شخصا مجوسيا أو عدة مجوس (حسب بعض الروايات المسيحية كان سلمان وأخيه) رأوا نجما يُشير لهم أن يسيروا خلفه ويتبعون أثره. فكانت رحلتهم او رحلته من أجل البحث عن السيد المسيح ، فاختلقوا عدة شخصيات تكاد تتشابه لما ورد من قصة سلمان الفارسي.
هذا الزعم أوقعهم في إشكالات لا يُمكن الخروج منها، أو تجاوزها. كما سيأتي بيانه.
رحلة البحث هذه سرقها النصارى ودونوها على أنها من مآثر نبيهم السيد المسيح (ع) كما يرويها لنا متى في إنجيله بطريقة لا يقبلها العقل ولذلك رفضها غيره بسبب إبهامه لعددهم وأسمائهم. ومتى هذا هو الوحيد الذي ذكر قصة المجوس أو المجوسي الذي جاب الدنيا باحثا عن نبي آخر الزمان، فقد عزفت كل الأناجيل عن ذكر هذه القصة. مع قولهم أن متى شخص مجهول، وأن إنجيله كان آخر ما كُتب من الأناجيل .فحسب عدد من المؤرخين النصارى فإن إنجيل متى كُتب في القرن الثالث بعد الميلاد، أو على احسن الأحوال كُتب في أواخر القرن الثاني أي بعد رحيل السيد المسيح بسنوات. وإذا حسبنا ذلك إلى بعثة نبي الإسلام يكون المجموع مائتين سنة أو أكثر بقليل وهي الفترة بين كتابة إنجيل متى ومبعث نبينا (ص). وهذا هو العمر الافتراضي الذي يذكره المؤرخون لسلمان الفارسي حيث قالوا بأنه عاش ما بين ثلاث مائة وخمسين سنة وقيل مائتان وخمسون. قال الذهبي أنه عاش مائتين وخمسين سنة. (1) وقال ابن الأثير عن العباس بن يزيد: قال أهل العلم عاش سلمان ثلاثمائة وخمسين سنة.(2)
فكما هو معروف بين المسلمين فإن الفترة الزمنية بين رحيل السيد المسيح وولادة نبينا اكثر من خمسمائة عام بقليل. فإذا طرحنا منها الفترة التي كتب فيها متى إنجيله ، أصبحت الفترة الباقية تُمثّل عمر سلمان الفارسي على أغلب الروايات. وبهذا فهو لم ير السيد المسيح ولم ير القيصر ولكن إذا جمعنا الروايات المسيحية والروايات الإسلامية فيكون عمر سلمان الفارسي كما تذكره الروايات. فإذا قيل أنه أكثر من أربعمائة سنة فإن الإنجيل يكون شاهد على ذلك. وإذا قلنا اقل من أربعمائة سنة تكون الروايات الإسلامية شاهد على ذلك.
عمر سلمان الفارسي في روايات المسيحيين وأهل السنة والشيعة.
إذا اعتمدنا رواية إنجيل متى فيكون عمر سلمان الفارسي أكثر من خمسمائة عام. لأن متى يقول بأن المجوسي رأى يسوع واره وهو في المهد صغيرا، وأنهُ هو من أشاع خبر ولادته كما سيأتي في قسم الإنجيل.
قال الطبرسي. قال النبي (ص) : (اتهنون سلمان بالإسلام وهو يدعو بني إسرائيل إلى الإيمان بالله منذ أربعمأة سنة وخمسون سنة).(3)
وقال في الباب الرابع عشر ، أنهُ قال صلى الله عليه وآله لزوجاته : (سلمان عيني الناظرة، ولا تظنون أنه كمن ترون من الرجال، إن سلمان كان يدعو إلى الله تعالى، وإليَّ قبل مبعثي بأربعمأة وخمسين سنة).
وقال السيد المرتضى في الشافي : (روى أصحاب الأخبار أن سلمان الفارسي عاش ثلاثمأة وخمسين سنة وقيل إنه أدرك عيسى (ع). وقال بعضهم : بل عاش أكثر من أربعمأة سنة ، وقيل إن ما ذُكر هنا هو برواية الأكثر، وأما الأقل فمأتان وخمسون سنة).
وفي مجمع البحرين قال : نقل أنه عاش ثلاثمأة وخمسين سنة، وأما مأتين وخمسين فممّا لا يُشك فيه. بل في السيرة الحلبية : ونقل بعضهم الإجماع على أن سلمان عاش مأتين وخمسين سنة. وفي حواشي تلخيص الرجال للميرزا محمد ،عن تهذيب الأسماء: إن سلمان عاش مأتين وخمسين سنة، وقيل : ثلاثمأة وخمسين سنة، وقيل: أنه أدرك وصي عيسى عليه السلام. ولربما تُشير هذه الرواية إلى لقائه بـ (متى) لأنهُ من الأوصياء الاثنا عشر للمسيح وهو كاتب الإنجيل بزعم المسيحيين وهو الوحيد الذي نقل قصة المجوسي.
وقال العباس بن يزيد : (قال أهل العلم: عاش سلمان ثلاثمائة وخمسين سنة، فأما مائتان وخمسون فلا يشكون به).(4)
من ذلك نفهم أن سلمان الفارسي (رض) أدرك عيسى (ع) أو، وصي عيسى حسب ما نفهمه من هذه الروايات وعلى ما يبدو أن متى ارتاع عندما سمع أن شخصا من أصفهان يدور ويبحث عن نبي آخر الزمان ، فقام بقلب القصة بالشكل الذي عزفت عنهُ الأناجيل الثلاث الأخرى. ولو سلّمنا جدلا بصحة قولهم بأن سلمان أدرك عيسى (ع) فهذا يعني أن سلمان قد سمع البشارة بنبي آخر الزمان من عيسى كما ورد في الرواية من أن آخر راهب مسيحي أخبر سلمان بقرب ولادة نبي آخر الزمان وأنه في يثرب. وبناء على ذلك استمر سلمان بالبحث متنقلا من ديرٍ إلى دير. إلى أن تم الغدر به وبيعهُ على أنهُ عبد وقد نقلهُ من اشتراه إلى يثرب وعمل في بساتينها، كما تذكر روايات الفريقين.
وبالعودة إلى إنجيل متى ناقل القصة تبين أنهُ لا مصدر لمتى حول قصة المجوسي، لأن مؤرخي المسيحية قالوا: اعتمد مؤلف إنجيل متى بحسب الباحثين على ثلاثة مصادر رئيسية لكتابة إنجيله، أحدها إنجيل مرقص حيث أكد المؤرخون أن متى اقتبس من إنجيل مرقس نحو (600) آية من مجموع (661) آية، وهذا يعني أن متى اقتبس أكثر من 98% من إنجيل مرقس، حيث يكاد يُعتبر إنجيل متى نسخة مكررة او مستنسخة عن إنجيل مرقس. وكذلك أخذ متى من إنجيل لوقا اكثر من (220) آية لا توجد في بقية الأناجيل ولا يعلم أحد من أين جاء بها. وهذا دليل آخر على أن قصة المجوسي الباحث عن السيد المسيح كما يزعمون متأخرة جدا ولذلك فهي غير موجودة في إنجيل مرقس ولوقا ويوحنا اللذين سبقوا متى بسنوات وعاصروا السيد المسيح (ع). لأن متى اقتبس منهما أكثر من (98) بالمائة. فإذا قيل لنا بأن هناك أدلة على أن متى كتب إنجيله قبلهم ، نقول لهم: ولماذا لم يذكر مرقس ولوقا ويوحنا قصة المجوسي الباحث عن عيسى؟ فعزفوا عن ذكرها وانكروها. فإذا كانت هذه القصة وحيا، فقد ارتكبوا إثما عظيما بحذفها. وإن لم تكن وحيا لماذا لم يذكروها فيما ذكروا من قصص أخرى أقلّ شأنا منها مثل قصة سرقة الحمارة، وقصة صناعة الخمر ، وقصة الدعاء على التينة وغيرها.
يؤكد القس فهيم عزيز مجهولية كاتب إنجيل متى فيقول : (لا نستطيع أن نعطه اسمًا، وإذا لم يكن متى هو كاتب الإنجيل المنسوب إليه، فمن هو كاتب هذا الإنجيل؟ في الإجابة عن السؤال نقول: نتائج الدراسات الغربية التي أكدت أن هذا الإنجيل قد كتبه متى آخر غير متى التلميذ، ونسبه إليه من القرن الثاني).(5) ويقول القس فهيم أيضا : (ولكن من هو كاتب إنجيل متى. هذا سؤال صعب والجوب عليه يتطلب دراسة واسعة غالبا ما تنتهي بالعبارة : لا يعلم إلا الله وحده من الذي كتب هذا الإنجيل).(6)
هذا الإنجيل المجهول هو الذي ذكر قصة المجوسي الذي قطع مساحات هائلة من أجل الوصول إلى النبي القادم. فماذا يقول متى في إنجيله؟ (مجوس من المشرق قد جاءوا إلى أورشليم، إذا النجم الذي رأوه في المشرق يتقدمهم فلما رأوا النجم فرحوا فرحا عظيما جدا. حتى جاء النجم ووقف فوق حيث كان الصبي. وأتوا إلى البيت ، ورأوا الصبي مع مريم أمه. فخروا وسجدوا له. ثم إذ أوحي إليهم أن لا يرجعوا إلى هيرودس).(7) سبق وأن قلنا بأن بعض الروايات المسيحية تقول بأن المجوسي وأخيه تركوا الجيش الفارسي وذهبوا إلى سوريا كما سيأتي بيانه، ولذلك النص يتكلم بصيغة الجمع.
والسؤال هو : هل يوحي الله تعالى إلى المشركين به من عبدة النار؟ أليس من المعروف أنه تعالى يوحي إلى الأنبياء. وأما عن النجم الذي رأوه وتبعوه من إيران ــ أصفهان ــ مرورا بتركيا ثم سوريا ثم فلسطين مع ما في ذلك من صعوبات عبور أنهر وبحيرات وجبال وغابات. فهل كان هذا النجم ينام بنومهم ويسير أمامهم فكما هو معروف أن النجوم لا تظهر إلا ليلا. عن ذلك تتحدث إلينا الموسوعات المسيحية قائلة: (كيف يُمكن تحديد بيت بعينه عن طريق نجم في السماء؟ وكيف تساوت سرعة المجوس مع سرعة النجم؟ لأن النجم أكبر من الشمس أو هو مساو لها. وهل المجوس كانوا ينامون ليلا أم أنهم يتبعون النجم، أم أن النجم كان ينام بنومهم؟ وكيف يوحي الله للمجوس الكفرة؟ وهل كانت سرعة المجوس على الأرض تساوي سرعة النجم في السماء؟ ومن المعلوم أنهُ لا يوحي الرب إلا إلى أنبيائه، فهل أوحى الرب إلى الكفار وأنزلهم بذلك منزلة الأنبياء؟ أليست هذه دعوة إلى إتباع ملة المجوس؟).( 8 )
إذن ، يتبين لنا من خلال الإشكالات المطروحة، أن هذه القصة غير منطقية وأن سارقها لم يُحكم حبكها، ولابد أن لهذه القصة واقع حقيقي لشخص آخر فعلا تجشم عناء البحث ومخاطره من أجل العثور على ما وجدهُ مدونا في كتبه القديمة، وعند البحث في أغلب المراجع المسيحية التي فسرت رواية إنجيل متى لم نعثر على إجابة شافية وافية، فلجأنا إلى ما ذكرته كتب السير والتاريخ الإسلامية.
تخبرنا قصة سلمان الفارسي التي توردها المصادر الإسلامية، بأن أغلب أحداثها حدثت في كنائس النصارى وبين الرهبان، وتوحي لنا الرواية بأن كنائس النصارى كانت موجودة في إيران حول أصفهان. فعن عبد الله بن عباس ما مختصرة قال: حدثني سلمان الفارسي قال: (كنت رجلا فارسيا من أهل أصبهان، وكان أبي دهقان القرية، فحبسني أبي لكي أكون قطنا للنار ــ أي خادمها ومن يشرف عليها ويمنع انطفائها ــ فخرجت يوما أريد ضيعة أبي، فمررت بكنيسة من كنائس النصارى، فسمعتُ أصواتهم فيها وهم يُصلّون، فلما رأيتهم أعجبني صلاتهم ورغبت في أمرهم . وقلت هذا والله خير من الدين الذي نحن عليه، فسألتهم أين أجد هذا الدين؟ فقالوا في الشام، فقلت لهم: إذا قدم عليكم ركب من الشام تجارٌ من النصارى فأخبروني بهم).(9)
فكما هو معروف فإن الكنائس لم تُبنى في زمن المسيح أو بوجوده ، إنما بُنيت في سوريا وبعض نواحي فلسطين بعد رحيله بسنوات، وأما وصول الكنائس إلى أصفهان في إيران ووجود مبان لها وفيها رهبان فهذا قد يتطلب سنوات. فبحسب التاريخ المسيحي واتفاق علماء الآثار فإن أول كنيسة تم بنائها كانت في سوريا سنة 250 ميلادية.(10) أي بعد رحيل السيد المسيح بـ (250) سنة.
وبما أن التاريخ المسيحي يقول بأن أول كنيسة بُنيت في الشام سنة 250 ميلادية فهذا التاريخ يتطابق مع هجرة سلمان الفارسي الذي تتفق عليه الروايات، لا كما يُشاع من أن سلمان التقى السيد المسيح، لأنه ليس من المنطقي أن يجد سلمان كنيسة في أصفهان والمسيح بعد لم يولد، لأن رواية الإنجيل تقول بأن الفارسي المجوسي زار السيد المسيح في يوم ولادته بعد أن أرشده النجم إليه، ثم كيف عرف سلمان أن هذا الطفل هو السيد المسيح ؟ وهل آمن به كنبي وهو بعد في القماط رضيعا، إضافة إلى ذلك فإن الإنجيل يؤكد على أن المجوس لا يعرفون السيد المسيح فيقول بأن النجم أرشدهم إلى مكان ولادته ، وأخرى يقولون بأنهم كانوا يدورون ويسألون عن المولود، يقول الإنجيل عنهم : (أين هو المولود ملك اليهود؟).(11) ولكن الإنجيل في نفس النص يُناقض نفسه فيقول بأن النجم هو الذي أرشدهم إلى حيث كان المسيح يرقد في المهد فيقول: (وإذا النجم الذي رأوه في المشرق يتقدمهم حتى جاء ووقف فوق، حيث كان الصبي).(12)
ولا أدري كيف يقف نجم بحجم الشمس أو أكبر فوق رأس الصبي أو فوق البيت؟؟ وإذا صحت رواية إنجيل متى فهذا يعني أن رهبان كنيسة أصفهان اخبروا سلمان بالنبي القادم بعد السيد المسيح ، لأن الزمن الذي التقى به سلمان بالرهبان كان بعد رحيل السيد المسيح بأكثر من مأتين سنة أو أكثر وهو عمر إنجيل متى.
المستشرقون وشخصية سلمان.
من الطبيعي ان تسعى قريش قبل الإسلام وبعده إلى إخمال إسم سلمان ، لأنه تسبب في إذلالهم وهدم غطرستهم من خلال فكرة بناء الخندق حيث تسبب في عرقلة قريش وإبعاد جيوشها عن المدينة.(13)
وكذلك حبه لآل البيت عليهم السلام ونصرته لهم ناهيك عن حديث النبي (ص) الذي قال فيه : (سلمان منا آل البيت).ولكن مع هذا البغض لشخصية سلمان إلا أننا رأينا الطبرسي أورد الروايات المتعددة في خبره بأسانيدها السنية والشيعة، مع حكم العقل بوجود هذه الشخصية نظرا لكثرة الدلائل على ذلك منها الأسانيد المعتبرة الكثيرة الدالة عليه، الأحاديث المنقولة عنه ، قبره الموجود في المدائن. ومع ذلك نرى بعض المستشرقين يُشككون بشخصية سلمان الفارسي متوسلين بشتى الوسائل وهذا مما لا نعرف لهُ سببا سوى العداء للإسلام ورموزه ، ولكن لربما يُقال أن سبب إنكارهم هو أن قصة سلمان الفارسي ورحلته في البحث عن نبي آخر الزمان تتشابه مع قصة الفارسي الذي أتى من فارس للبحث عن المسيح ، فحاولوا التشكيك بشخصية سلمان الفارسي لا بل إنكارها كليا واعتبار قصة سلمان الفارسي خرافة أو أسطورة ميلا منهم إلى مسيحيتهم. وفي هذا المجال يقول الدكتور ياسين حسين علوان الويسي : (لم يكن بعض المستشرقين منصفين في تشكيكهم بخبر سلمان وأعني بذلك هوروفتس وإيفانوف، إذ حاولا نسف خبر سلمان من أساسه).(14)
ولكن لويس ماسينيون انفرد من بين المستشرقين فأثبت وجود هذه الشخصية في الإسلام حصرا فقال (جرى اهل السنة والشيعة معاً على عد سلمان الفارسي، من بين كبار الصحابة، ذا مكانة خاصة: فهو احد الثلاثة السابقين الى الإسلام من غير العرب وهم : سلمان الفارسي، وصهيب الرومي، وبلال الحبشي، والصورة التقليدية لهذا "الأعجمي" ذات ملامح بارزة الرسوم. وُلِدَ في فارس وجذبته الى المسيحية نزعة الى الزهد الحادة، وتنقل وهو لا يزال في موجة الشباب، من شيخ الى شيخ ومن مدينة الى مدينة، مستهدفاً للنفي والرق، وكل هذا ليس فقط من اجل ان يظفر بطريقة في الحياة اشد قساوة ، وبتوحيد خالص من نوع ما يبحث عنه الحنفاء بل وأيضا للاتصال برسول من رسل الله وُصِفَ لهُ ووجدهُ أخيرا في محمد الذي قرب إليه).(15)
وبالعودة للموضوع نرى علماء المسيحية يؤكدون في تفسيرهم لنص إنجيل متى بأن المجوس الذين زاروا السيد المسيح يوم ولادته كانوا ثلاث ملوك وفي قول ثلاث سحرة ، أو ثلاث كهنة، أو ثلاث منجّمين أو أطباء أو فلكييين. وهذا من الخيال طبعا لأن الإنجيل لم يذكر حتى الرقم ثلاث، ولا يقول بأنهم ملوك يقول: (مجوس من المشرق قد جاءوا).(16) هذا كل ما موجود في الإنجيل فمن أين جاء علماء المسيحية بالعدد ثلاث وأنهم ملوك؟(17)
فلو ان نص إنجيل متى اكتفى بالقول انهم حضروا ولادة السيد المسيح لكان ذلك لربما مقنعا ولربما يكونوا قد حضروا سرا خشية من علم الدولة الرومانية بهم لأن فارس كانت في حرب مع الروم، ولكن ان يقول مؤكدا ان قيصر روما استدعاهم ومثلوا بين يديه ثم خدعوه وانصرفوا بأمان فهذا مما لا يقبله العقل أبدا . فهل كان القيصر ساذجا أو مغفلا. هكذا وبكل بساطة يُدخل مملكته وقصره ثلاثة من ألد أعدائه (الفرس المجوس) الذي كان في حرب طاحنة معهم. ثم يتركهم يضحكون عليه ويكذبون ويُثيرون البلبلة في كل المناطق التي دخلوها وهم يُرجفون بولادة (ملك اليهود) ويخرجون بسلام بعد إشاعتهم الفوضى في مملكة القيصر؟ وتسببهم في مجزرة الأطفال التي قام بها الحاكم الروماني (هيرودس) كما سيأتي.
ثم لماذا شهدوا بولادة ملك اليهود المسيح وما هو النفع الذي سوف يعود عليهم وهم لا علاقة لهم بالسيد المسيح فهم يعبدون النار ويؤمنون بوجود إلهين للخير والشر ونبيهم زرادشت وكتابهم الأوستا، يضاف إلى ذلك أن هؤلاء المجوس عندما رأوا السيد المسيح عرفوا أنهُ ليس الذي يبحثون عنه، ولذلك أعطوا لأمه بعض الهدايا وانصرفوا. إلا إذا كان سبب زيارتهم هو لخلق بلبلة ستؤدي في النهاية إلى قتل السيد المسيح وهو بعد صغير مما يؤدي إلى إثارة الرأي العام في الإمبراطورية خصوصا بين اليهود ، فيستغل الفرس هذه الفرصة لدحر قوات القيصر التي أصبحت على مشارف عاصمتهم بعد ان تجاوزت الموصل في شمال العراق ووصلت إلى هيت.
ولربما تختلف قصة المجوس عن قصة سلمان الفارسي ، فلكل قصة منهما اتجاه آخر ، لربما كان المجوس جواسيس لإثارة الفتن بين اليهود والإمبراطورية الرومانية ولم يكونوا باحثين عن نبي يولد. فبعد أن ولد السيد المسيح بالقرب من عاصمتهم في العراق (المدائن). وعلم الفرس من اليهود في بابل وضواحيها أنه النبي المبشّر به عندهم. استغلوا الفرصة فسافروا يقطعون الآكام والآجام وهم يُرجفون بولادة السيد المسيح طمعا في إثارة اليهود الذين كانوا ينتظرون ولادة (مخلّصهم) فتثور ثائرة القيصر فيعمد إلى سحب جيشه من مشارف هيت ويقتل السيد المسيح فتندلع ثورة عارمة تُطيح به فيرتاح الفرس من قتاله. ويدلنا على صحة هذا الرأي هو أن اليهود والقيصر والجميع في الشام وضواحيها لم يعلموا بميلاد السيد المسيح إلا من خلال هؤلاء المجوس كما ينص الإنجيل على ذلك.(مجوس من المشرق قد جاءوا إلى أورشليم قائلين : أين هو المولود ملك اليهود؟ فلما سمع هيرودس الملك اضطرب وجميع أورشليم معه. حينئذ دعا هيرودس المجوس سرا ، وتحقق معهم).(18) فلم يكن أحد يعلم بولادة السيد المسيح لأنه لم يولد في فلسطين بل ولدته السيدة مريم بعيدا عن بلاد حكم القيصر كما أخبرنا القرآن بذلك. (فحملتهُ فانتبذت به مكانا قصيا. فأجاءها المخاضُ إلى جذع النخلة).(19) هذه قصة المجوس المذكورة في الإنجيل، بينما قصة سلمان الفارسي تأخذ منحى آخر حيث يبدو متنقلا من دير إلى دير وصولا إلى يثرب.
ومن هنا نرى مكيدة هؤلاء الفرس عندما نجحت وحصل (اضطراب عند القيصر وجميع سكان أورشليم).كما يقول النص، هربوا راجعين إلى بلدهم كما يقول الإنجيل: (انصرفوا في طريق أخرى إلى كورتهم. حينئذ لما رأى هيرودس أن المجوس سخروا به غضب جدا. فأرسل وقتل جميع الصبيان الذين في بيت لحم وفي كل تخومها، من ابن سنتين فما دون).(20) وهكذا تحققت مكيدة المجوس في إثارة فتنة في الإمبراطورية الرومانية، ثم انسحبوا بأمان عائدين لبلادهم.
من الناحية العلمية فإننا نحكم بأن هذه القصة كذبة كبرى أرادوا بها إثبات فضيلة لنبيهم فوقعوا في شرها لأن الذي يفضح هذه الكذبة ، أن متى في إنجيله يصوّر لنا القيصر هيرودس بأنه يستعين بأعدائه (المجوس) ليتجسس على ولادة السيد المسيح كما يقول : (حينئذ دعا هيرودس المجوس سرا، وتحقق منهم ثم أرسلهم إلى بيت لحم، وقال: اذهبوا وافحصوا بالتدقيق عن الصبي. ومتى وجدتموه فأخبروني).(21) فهل تجد سخرية اكثر من هذه المزاعم ؟ الحرب محتدمة بين القيصر وبين الفرس (22) وهم على وشك احتلال عاصمة الفرس في المدائن ثم يستعين القيصر بثلاث من ملوك الفرس أعدائه ليكونوا جواسيسا له. علما أن الحرب لم تتوقف بين الروم والفرس حتى سنة (614) حيث زحف الفرس بقيادة شهربراز إلى إيلياء فحاصروها ثم اقتحموها وجعلوها نهبا للحرائق. وتم تدمير كنيسة القيامة واستولوا على الصليب المقدس ونقلوه إلى عاصمتهم المدائن.
ثم تقدم الفرس إلى مصر، فسقطت الإسكندرية في أيديهم سنة 619، وترتب على ذلك انقطاع القمح عن القسطنطينية وازدياد سوء الأحوال الاقتصادية.
وبحلول سنة 622 م كانت الإمبراطورية البيزنطية على حافة الانهيارِ وحدودِ الإمبراطوريةِ الأخمينية السابقة على كُلّ الجبهات احتلها الساسانيون ما عدا أجزاء من الأناضول. ولم يبق للروم إلا أثينا وجزر البحر المتوسط (قبرص وصقلية) وشريط ساحلي في شمال أفريقيا (قرطاجة). حتى أن القرآن ولعظم هذه الأحداث ذكرها فقال تعالى : (غُلبت الروم في أدنى الأرض).(23) في ظل هذه الأجواء المحمومة التي لم تتوقف يوما يزعم متى في إنجيله أن هيرودوس استعان بمجوس فرس ثلاث كجواسيس له. ثم يتبين أنهم خدعوه بعد أن أشاعوا البلبلة في دولته.
على ما يبدو أن المسيحية شعرت بأن رواية متى غير كافية لإثبات قصة المجوسي او المجوس، فعمدوا إلى اختلاق قصص أخرى لمجوس آخرين زعموا فيها أنهم آمنوا بالمسيح بعد رحلة بحث. ومن بين هؤلاء القديس أناستاسيوس الفارسي. الذي ولد في أواخر القرن السادس الميلادي في مدينة الري في بلاد فارس لأسرة مجوسية، حيث كان جنديا في جيش كسرى الثاني وشارك في الحرب ضد الدولة الرومانية وفي هذه الحرب تم الاستيلاء على صليب (الصلبوت) والذي يعتقد النصارى أن السيد المسيح صُلب عليه، وهذا الصليب أثار انتباه الجندي ماغوندات (أناستاسيوس) ودفعهُ إلى التساؤل عن الديانة المسيحية. ومن خلال بحثه في هذه الديانة وفي غمار حرب خلقيدونية بين الفرس والروم فرّ من الجيش الفارسي والتحق بالمسيحية في الشام هو وأخيه ثم ذهب إلى أورشليم ليلتقي بالأسقف مودستوس، وتعمد على يديه، واختار اسمه الجديد أناستاسيوس، تاركا اسمه الفارسي القديم (ماغوندات) وديانته المجوسية.(24) هذه الرواية فيها من الخرافات ما لم يقبله العقل ولربما كانت الغاية من وضعها هي للتشويش على قصة سلمان الفارسي الحقيقية، ولكن أوجه الشبه بين قصة سلمان الفارسي وأناستاسيوس الفارسي هي رحلة البحث عن الحقيقة وصولا إلى الدين الحق، الفرق الوحيد هو أن أناستاسيوس الفارسي انتهت حياته قتلا قبل بعثة النبي محمد (ص). بينما واصل سلمان الفارسي رحلة البحث حتى وصوله إلى النبي ولقائه به والإيمان برسالته. الأمر الآخر أن المجوسي أو المجوس الذين زاروا عيسى في المهد اتهمهم الوالي الروماني بالتجسس، ولكنهم استطاعوا النجاة والرجوع إلى بلدهم ، بينما نرى في قصة أناستاسيوس الفارسي أن كسرى الثاني اتهمه بالتجسس لصالح الروم وأعدمه بهذه التهمة.
المصادر:
1- الذهبي في سير النبلاء ج1 ص : 556.
2- ابن الأثير في أسد الغابة ص : 325.
3- نفس الرحمن في فضائل سلمان، ميرزا حسين النوري الطبرسي ص : 649 ــ 650.
4- أسد الغابة ص : 325.
5- مكتبة الكتب المسيحية، كتاب النقد الكتابي : العهد الجديد من الكتاب المقدس حلمي القمص يعقوب : هل مؤلف إنجيل متى مجهول. 145.
6- المدخل إلى العهد الجديد ، القس فهيم عزيز ص : 546.
7- إنجيل متى 2 : 2ـ 12.
8- كتاب النقد الكتابي: مدارس النقد والتشكيك، العهد الجديد من الكتاب المقدس ، أ . حلمي القمص يعقوب. ويُنظر أيضا كتاب : البهريز في الكلام اللي يغيظ، الدكتور علاء أبو بكر جـ 2 ص:83. كتاب البهريز فى الكلام اللى يغيظ فيه اسأله بلا إجابات يحتوى على 5000 سؤال بدون جواب تدور حول مسائل متعلقة بالمسيحية.
9- رواه أحمد في مسنده ج5 ص : 441. القصة طويلة وهذا مختصرها، وفي ختامها مسيرة سلمان الفارسي في رحلة البحث حتى وصوله إلى يثرب. كذلك انظر : ﻤﺤﻤﻭﺩ ﺸﻴﺕ ﺨﻁﺎﺏ، ﻗﺎﺩﺓ ﻓﺘﺢ، ﺹ٧٣؛ﻟﻭﻴﺱ ﺸﻴﺨﻭ، ﺍﻟﻨﺼﺭﺍﻨﻴﺔ، ﺹ٥٧؛ﺠﻭﺭﺝ ﻗﻨﻭﺍﺘﻲ، ﺍﻟﻤﺴﻴﺤﻴﺔ،ﺹ١١٨؛ ﺤﺴﻴﻥ ﻤﺠﻴﺏ ﺍﻟﻤﺼﺭﻱ، ﺍﻟﺼﺤﺎﺒﻲ، ﺹ٣٠، ﺍﻟﻤﺴـﻌﻭﺩﻱ،ﺃﻴﻀا ﻤـﺭﻭﺝ ﺍﻟـﺫﻫﺏ، ﺝ١،ﺹ٢٧٧.ﺍﺒﻥ ﺍﻟﻌﺒﺭﻱ، ﺘﺎﺭﻴﺦ ﻤﺨﺘﺼﺭ ﺍﻟﺩﻭل, ﺘﺤﻘﻴﻕ ﺍﻻﺏ ﺍﻨﻁﻭﺍﻥ ﺼﻠﺤﺎﻨﻲ ﺍﻟﻴﺴﻭﻋﻲ،,ﺒﻴﺭﻭﺕ,١٩٥٨ﻡ,ﺹ٩٢ ،ﺃﻴﻀا ﺨﺎﻟﺩ ﻤﺤﺩ ﺨﺎﻟﺩ، ﺭﺠﺎل ﺤﻭل ﺍﻟﻨﺒﻲ، ، ﺍﻟﻤﻨﺼﻭﺭﺓ، ﺹ٣٣-٣٤؛ﺃﺤﻤﺩ ﺍﻟﺤﻭﻓﻲ، تيارات ﺜﻘﺎﻓﻴﺔ ﺒﻴﻥ ﺍﻟﻌﺭﺏ ﻭﺍﻟﻔﺭﺱ، ﺍﻟﻘﺎﻫﺭﺓ١٩٧٨ﻡ، ﺹ٣٢.
10- الكنيسة تم إنشائها في مدينة دورا أوروبوس حاليا مدينة الصالحية في سوريا في بادية الشام قرب دير الزور. صحيفة الثورة السورية 26 يناير 2020 موضوع تحت عنوان: دورا أوربوس أول كنيسة منزلية في العالم. انظر برودي هوفمان ص: 155 طبع سنة 2011.
11- إنجيل متى 2 : 2.
12- إنجيل متى 2 : 9.
13- في السيرة الحلبية ، باب غزوة الخندق : (ولما نظر المشركون إلى الخندق قالوا : والله إن هذه لمكيدة ما كانت العرب تكيدها). وفي هذا إشارة إلى وجود سلمان الفارسي بين المسلمين.
14- الصحابي سلمان المحمدي (رض) دراسة تحليلية لنظريات المستشرقين. د.ياسين حسين علوان الويسي ـ قسم الشريعة ـ كلية العلوم الإسلاميةـ جامعة سامراء: مجلة دراسات استشراقيه ، العدد 5 السنة الثانية، 2015.
15- لويس ماسينيون ،شخصيات قلقلة في الإسلام، سلمان الفارسي والبواكير الروحية للإسلام في إيران ضمن كتاب : عبد الرحمن بدوي ، دار سينا للنشر، القاهرة ط 3 ص : 22 . سنة 1995.
16- إنجيل متى 2 : 1.
17- يقول في شرح الكتاب المقدس الموسوعة الكنسية لتفسير العهد الجديد، شرح لكل آية ، تفسير إنجيل متى 2.( المجوس هم المنجمون الذين كانوا يهتمون بدراسة الطب والفلك، وكانوا علماء في بلادهم، ويُعتبَرون كهنة أيضا، وقد أتوا من المشرق، غالبًا من فارس أو العراق، ولم يُذكَر عددهم).
18- إنجيل متى 2 : 1 ــ 7.
19- سورة مريم آية : 22 ــ 23.
20- إنجيل متى 2 : 12 ــ 16.
21- إنجيل متى 2 : 7.
22- انظر كتاب تاريخ يوسيفوس اليهودي الفصل الرابع باب : عودة انطونينوس من بلد الفرس بعد قتله ملك الفرس ولقاء هيرودس له.
23- سورة الروم آية : 2.
24- الملف اللاتيني لأناستاسيوس الفارسي: ترجمات وتحولات سير القديسين بقلم كارميلا فيرسيلو فرانكلين.
https://telegram.me/buratha