الدكتور فاضل حسن شريف
عن تفسير الميسر: قال الله تعالى عن منثورا "وَقَدِمْنَا إِلَىٰ مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا" ﴿الفرقان 23﴾ منثورا اسم، منثورا: مفرّقا ذاهبا. هَبَاءً مَنْثُورًا: الذرات المتطايرة أو كرماد اشتدت به الريح. وقَدِمْنا إلى ما عملوه مِن مظاهر الخير والبر، فجعلناه باطلا مضمحلا لا ينفعهم كالهباء المنثور، وهو ما يُرى في ضوء الشمس من خفيف الغبار؛ وذلك أن العمل لا ينفع في الآخرة إلا إذا توفر في صاحبه: الإيمان بالله، والإخلاص له، والمتابعة لرسوله محمد، صلى الله عليه وسلم. قوله سبحانه "وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَّنثُورًا" ﴿الانسان 19﴾ منثورا صفة، لؤلؤا منثورا: اللؤلؤ المُـفـرّق في الحُـسْن و الصّـفاء. ويدور على هؤلاء الأبرار لخدمتهم غلمان دائمون على حالهم، إذا أبصرتهم ظننتهم لحسنهم وصفاء ألوانهم وإشراق وجوههم اللؤلؤ المفرَّق المضيء.
جاء في معاني القرآن الكريم: نثر نثر الشيء: نشره وتفريقه. يقال: نثرته فانتثر. قال تعالى: "وإذا الكواكب انتثرت" (النفطار 2) ويسمى الدرع إذا لبس نثرة، ونثرت الشاة: طرحت من أنفها الأذى، والنثرة: ما يسيل من الأنف، وقد تسمى الأنف نثرة، ومنه: النثرة لنجم يقال له أنف الأسد، وطعنه فأنثره: ألقاه على أنفه، والاستنثار: جعل الماء في النثرة. تفسير الجلالين لجلال الدين السيوطي: قوله تعالى "وَقَدِمْنَا إِلَىٰ مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا" ﴿الفرقان 23﴾ "فجعلناه هباءً منشورا" هو ما يرى في الكوى التي عليها الشمس كالغبار المفرق: أي مثله في عدم النفع به إذ لا ثواب فيه لعدم شرطه ويجازون عليه في الدنيا.
عن تفسير مجمع البيان للشيخ الطبرسي: قوله تعالى "وَقَدِمْنَا إِلَىٰ مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا" ﴿الفرقان 23﴾ "فجعلناه هباء منثورا" وهو الغبار يدخل الكوة من شعاع الشمس عن الحسن ومجاهد وعكرمة وقيل هو رهج الدواب عن ابن زيد وقيل هوما تسفيه الرياح وتذريه من التراب عن قتادة وسعيد بن جبير وقيل هو الماء المهراق عن ابن عباس والمنثور المتفرق وهذا مثل والمعنى تذهب أعمالهم باطلا فلم ينتفعوا بها من حيث عملوها لغير الله.. قوله سبحانه "وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَّنثُورًا" ﴿الانسان 19﴾ "حسبتهم لؤلؤا منثورا" من الصفاء وحسن المنظر والكثرة فذكر لونهم وكثرتهم وقيل إنما شبههم بالمنثور لانتثارهم في الخدمة فلو كانوا صفا لشبهوا بالمنظوم.
جاء في تفسير الميزان للسيد الطباطبائي: قوله تعالى "وَقَدِمْنَا إِلَىٰ مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا" ﴿الفرقان 23﴾ الهباء دقاق التراب وما انبث في الهواء فلا يبدو إلا في أثناء ضوء الشمس في الكوة. انتهى. والنثر التفريق. والمعنى: وأقبلنا إلى كل عمل عملوه والعمل هو الذي يعيش به الإنسان بعد الموت ففرقناه تفريقا لا ينتفعون به كالهباء المنثور، والكلام مبني على التمثيل مثل به استيلاء القهر الإلهي على جميع أعمالهم التي عملوها لسعادة الحياة وإبطالها بحيث لا يؤثر في سعادة حياتهم المؤبدة شيئا بتشبيهه بسلطان غلب عدوه فحل داره بعد ما ظهر عليه فخرب الدار وهدم الآثار وأحرق المتاع والأثاث فأفنى منه كل عين وأثر. قوله سبحانه "وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَّنثُورًا" ﴿الانسان 19﴾ والمراد بحسبانهم لؤلؤا منثورا أنهم في صفاء ألوانهم وإشراق وجوههم وانعكاس أشعة بعضهم على بعض وانبثاثهم في مجالسهم كاللؤلؤ المنثور.
وعن التفسير المبين للشيخ محمد جواد مغنية: قوله تعالى "وَقَدِمْنَا إِلَىٰ مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا" ﴿الفرقان 23﴾ "فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً" لأنه أسّس على غير الايمان والإخلاص، ومثله قوله تعالى: "مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذلِكَ هُو الضَّلالُ الْبَعِيدُ" (إبراهيم 18). قوله سبحانه "وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَّنثُورًا" ﴿الانسان 19﴾ هم في جمالهم ونضارتهم كاللؤلؤ المنثور، وفيه إيماء إلى كثرة الخدم ووجودهم هنا وهناك.
جاء في الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل للشيخ ناصر مكارم الشيرازي: قوله تعالى "وَقَدِمْنَا إِلَىٰ مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا" ﴿الفرقان 23﴾ جملة (قدمنا) من (القدوم) بمعنى (المجيء) أو (الذهاب على أثر شيء) وهي هنا دليل على تأكيد وجدّية المسألة، يعني مسلّماً وبشكل قاطع أن جميع أعمال أُولئك التي قاموا بها عن قصد وإرادة ـ وإن كانت أعمال خير ظاهراً سنمحوها كما تمحى ذرات الغبار في الهواء، لشركهم وكفرهم. كلمة (هباء) بمعنى ذرات الغبار الصغيرة جدّاً التي لا تُرى بالعين المجرّدة وفي الحال العادية أبداً إلاّ في الوقت الذي يدخل نور الشمس إلى الغرفة المظلمة من ثقب أو كُوّة، فيكشف عن هذه الذرات ويمكن مشاهدتها. هذا التعبير يدل على أن أعمال أُولئك لا قيمة لها ولا اثر إلى حدّ كأنّهم لم يعملوا شيئاً، وإن كانوا قد سعوا واجتهدوا سنين طويلة. هذه الآية نظيرة الآية (18) من سورة إبراهيم التي تقول: "مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ" (إبراهيم 18). الدليل المنطقي لذلك واضح أيضاً، لأنّ الشيء الذي يعطي عمل الإنسان الشكل والمحتوى، هو النّية والدافع وغاية العمل النهائية، فأهل الإيمان يتوجهون لإنجاز أعمالهم بدافع إلهي وعلى أساس أهداف مقدسة طاهرة، وخطط سليمة صحيحة، في حين أن من لا إيمان لهم، فغالباً يقعون أسارى التظاهر والرياء والغرور والعجب، فيكون سبباً في انعدام أية قيمة لأعمالهم. على سبيل المثال، نحن نعرف مساجد من مئات السنين، لم تترك عليها القرون الماضية أدنى تأثير، وبعكسها نرى بيوتاً تظهر فيها الشروخ وعلامات الضعف مع مضي شهر واحد أوسنة واحدة، فالأُولى بنيت من كل النواحي بناءً محكماً بأفضل المواد مع توقع الحوادث المستقبلية، أمّا الثّانية فلأن الهدف من بنائها هو تهيئة المال والثروة عن طريق المظاهر والحيلة، فالعناية فيها كانت بالزخرفة فقط. من وجهة نظر المنطق الإسلامي، فإن للأعمال الصالحة آفات، ينبغي مراقبتها بدقة، فقد يكون العمل أحياناً خراباً وفاسداً منذ البداية، كمثل العمل الذي يتخذ (رياءً). واحياناً اُخرى يلحقه الفساد أثناء العمل كما لو اصاب الانسان الغرور والعجب حينه فتزول قيمة عمله بسبب ذلك. وقد يمحى أثر العمل الصالح بعد الانتهاء منه بسبب القيام بأعمال مخالفة ومنافية، كمثل الإنفاق الذي تتبعه (منّة)، أو كالأعمال الصالحة التي يعقبها كفر وارتداد. حتى ارتكاب الذنوب أحياناً يترك أثره على العمل الصالح بعدها طبقاً لبعض الرّوايات الإسلامية كما نقرأ في مسألة شارب الخمر حيث لا تقبل أعماله عند الله أربعين يوماً. على أية حال، فللإسلام منهج فذ، دقيق وحساس في مسألة خصوصيات العمل الصالح. نقرأ في حديث عن الإمام الباقر عليه السلام قال: يبعث الله عزَّوجلّ يوم القيامة قوماً بين أيديهم نور كالقباطي، ثمّ يقول له: "كن هباءً منثوراً" ثمّ قال: أمّا والله يا أبا حمزة إنّهم كانوا يصومون ويصلون، ولكن كانوا إذا عرض لهم شيء من الحرام أخذوه، وإذا ذكر لهم شيء من فضل أمير المؤمنين عليه السلام أنكروه، قال: والهباء المنثور هو الذي تراه يدخل البيت في الكوة مثل شعاع الشمس). قوله سبحانه "وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَّنثُورًا" ﴿الانسان 19﴾ "لؤلؤاً منثوراً": يراد به الإشارة إلى جمالهم وصفائهم وإشراق وجوههم وكذلك حضورهم في كل مكان من المحفل الإلهي والروحاني.
https://telegram.me/buratha