الدكتور فاضل حسن شريف
جاء في کتاب الحسين في طريقه إلى الشهادة للخطيب علي بن الحسين الهاشمي: "اُمّ القرى" من أسماء مكّة المكرّمة زاد الله شرفها وتعظيمها. وفسّر قوله تعالى: "وَمَا كَانَ رَبّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتّى يَبْعَثَ فِي أُمّهَا رَسُولاً" (القصص 59) على وجهين، أحدهما: أنّه أراد أعظمها وأكثرها أهلاً، والأخرى: أنّه أراد مكّة. وقال ابن دريد: سمّيت مكّة "اُمّ القرى"، لأنّها توسّطت الأرض والله أعلم. وقيل: سمّيت اُمّ القرى، لأنّها تُقصد من كلّ أرض وقرية، أو لأنّها أقدم القرى التي في جزيرة العرب وأعظمها خطراً، إمّا لاجتماع أهل القرى فيها كلّ سنة، أو لانكفائهم إليها، وتعويلهم على الاعتصام بها لما يرجونه من رحمة الله تعالى. وقوله عزّ اسمه: "وَلِتُنذِرَ اُمّ القرى وَمَنْ حَوْلَهَ" (الانعام 92)، أراد تعالى ذكره مكّة. ومن أسمائها "بكّة"، قال جلّ ذكره: "إِنّ أَوّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنّاسِ لَلّذِي بِبَكّةَ مُبَارَكاً وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ" (آل عمران 96)، وقوله عظم شأنه: "وَهُوَ الّذِي كَفّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً" (الفتح 24). وذكر زكريا القزويني قال في ذكر الحجاز: حاجز بين اليمن والشام، وهو مسيرة شهر. قاعدتها مكّة "حرسها الله تعالى"، لا يستوطنها مشرك ولا ذمّي. كانت تُقام للعرب بها أسواق في الجاهلية في كلّ سنة، فإذا اجتمع بها قبائلهم يتفاخرون ويذكرون مناقب آبائهم، وما كان لهم من الأيام، ويتناشدون أشعارهم التي أحدثوا. وكانت العرب إذا أرادت الحجّ أقامت بسوق عكاظ شهر شوال، ثمّ تنتقل إلى ذي المجاز فتقيم فيه إلى الحجّ. والعرب الذين اجتمعوا في هذه المواسم إذا رجعوا إلى قومهم ذكروا لقومهم ما رأوا وما سمعوا. ومكة هي البلد الأمين الذي شرّفه الله تعالى وعظّمه، وخصّه بالقسم وبدعاء الخليل "رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آَمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ" (البقرة 126)، واجعله مثابة للناس، وأمناً للخائف، وقبلة للعباد، ومنشأ لرسول الله صلّى الله عليه وآله. فهذه أسماء مكّة جاءت في الذكر الحكيم، وقد أجمع أرباب التاريخ على أنّ الحسين عليه السلام كان قد دخلها ليلة الجمعة، لثلاث مضين من شعبان سنة ستين من الهجرة، وذلك عندما أبى بيعة يزيد بالمدينة، والخنوع تحت غاشية الظلم والجور، وهو ابن رسول الله صلّى الله عليه وآله. ولمّا نزل مكّة المعظّمة أقبل إليه أهلها ومَنْ كان من المعتمرين بها، يسلّمون عليه ويرحبّون بمقدمه، وصار الأشراف من الناس يختلفون إليه. وقد أقام بها بقية شعبان وشهر رمضان، وشوال وذي القعدة، وخرج منها لثمان مضين من ذي الحجّة يوم الثلاثاء. يوم التروية، وهو اليوم الذي خرج فيه مسلم بن عقيل سفيره بالكوفة. وكان قد اجتمع إليه مدّة مقامه بمكّة نفر من أهل الحجاز، ونفر من أهل البصرة انضافوا إلى أهل بيته ومواليه. وكان ناديه يضمّ وجوه المسلمين من الصحابة وأعيان أهل الحجاز، كعبد الله بن عباس (حبر الأمّة)، وعبد الله بن جعفر، ونظائرهما، وأمثال عبد الله بن الزبير وأقرانه. وقال ابن كثير في البداية والنهاية في إقامة الحسين عليه السّلام بمكة: عكف الناس على الحسين رضي الله عنه يفدون إليه، ويقدمون عليه، ويجلسون حواليه، ويستمعون كلامه، وينتفعون بما يسمع منه، ويضبطون ما يروون عنه. وقال أبو الفرج الأصبهاني: إنّ عبد الله بن الزبير لم يكن شيء أثقل عليه من مكان الحسين بالحجاز، ولا أحبّ إليه من خروجه إلى العراق، طمعاً في الوثوب بالحجاز، وعلماً منه بأنّ ذلك لا يتمّ له إلاّ بعد خروج الحسين عليه السلام.
وعن سعيد بن جبير رضي الله عنه يقول الخطيب الهاشمي في كتابه: كوفي تابعي، مشهور بالفقه والزهد والعبادة وعلم تفسير القرآن، وكان قد أخذ العلم عن ابن عباس، وكان يُسمّى جهبذ العلماء، ويقرأ القرآن في ركعتين. قيل: وما على وجه الأرض أحد إلاّ وهو محتاج إلى علمه، وكان علي بن الحسين السجّاد عليه السلام يثني عليه. قال أرباب التاريخ: احتجّ سعيد بن جبير على الحجّاج بأنّ الحسن والحسين عليهما السّلام من أولاد رسول الله صلّى الله عليه وآله حقيقة، لقوله تعالى: "ووهبنا له إسحاق ويعقوب" (الأنعام 84) إلى قوله تعالى "وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كلّ من الصالحين" (الأنعام 85). ولمّا أُدخل على الحجّاج قال له: ما اسمك؟ قال: سعيد بن جبير، فقال: بل شقي بن كسير. قال: أمّي كانت أعرف بي إذ سمّتني سعيداً. فقال له: شقيت وشقيت اُمّك، ما تقول في أبي بكر وعمر أفي الجنّة هما أم في النار؟ قال: لو دخلت الجنّة فنظرت إلى أهلها لعلمت مَنْ فيها، ولو دخلت النار ورأيت أهلها لعلمت مَنْ فيها. قال: فما قولك في الخلفاء؟ فقال سعيد: لست عليهم بوكيل. قال: أيهم أحبّ إليكم؟ قال: أرضاهم لخالقي. قال: فأيّهم أرضى للخالق؟ قال: علم ذلك عند الذي يعلم سرّهم ونجواهم. قال: أبيت أن تصدقني؟ قال: بلا، لا اُحبّ أن أكذبك. ثمّ قال له الحجّاج: اختر أي قتلة شئت أن أقتلك؟ قال: اختر لنفسك فإنّ القصاص أمامك. ولمّا أُحضر له النطع وأرادوا قتله استقبل القبلة قائلاً: "وَجَّهْتُ وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ" (الأنعام 59). فقال الحجّاج: وجّهوا وجهه على غير القبلة. فقال: "فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ" (البقرة 115). قال: كبّوه على وجهه. فقال: "مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى" (طه 55). ثمّ ذُبح على النطع رحمه الله. قيل: لم يبقَ بعده الحجّاج إلاّ خمس عشرة ليلة، ولم يقتل بعده أحداً، لدعائه، حيث قال: اللّهمّ لا تسلّطه على أحد يقتله بعدي. وكان قتله سنة 95 هـ وهو ابن تسع وأربعين سنة.
وعن نزول الحسين عليه السلام الثعلبية يقول الخطيب علي بن الحسين الهاشمي: قال أبو محنف: ولمّا نزل الحسين عليه السلام الثعلبية أقبل إليه رجل نصراني ومعه أمّه، فأسلما على يد الحسين عليه السلام وصارا في ظعينته. ويروى أنّ الحسين عليه السلام بات بالثعلبية، حتّى إذا أصبح الصباح وإذا برجل من أهل الكوفة يُكنّى أبا هرّة الأزدي قد أتاه وسلّم عليه، ثم قال له: يابن رسول الله، ما الذي أخرجك عن حرم الله وحرم جدّك محمد صلّى الله عليه وآله؟ فقال: (ويحك يا أبا هرّة إنّ بني اُميّة أخذوا مالي فصبرت، وشتموا عرضي فصبرت، وطلبوا دمي فهربت. وأيمُ الحقّ، لتقتلني الفئة الباغية، وليلبسهم الله ذلاً شاملاً، ويسلّ عليهم سيفاً قاطعاً، وليسلّطنَّ عليهم مَنْ يذلّهم حتّى يكونوا أذلّ من قوم سبأ إذ ملكتهم امرأة منهم، فحكمت في أموالهم ودمائهم). وذكر الشيخ الصدوق قال: لمّا نزل الحسين الثعلبية أتاه رجل وسأله عن قوله تعالى: "يَوْمَ نَدْعُو كُلّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ" (الاسراء 71)، فقال عليه السلام: (إمام دعا إلى هدى فأجابوا إليه، وإمام دعا إلى ضلالة فأجابوا إليه، هؤلاء في الجنّة وهؤلاء في النار، وهو قوله تعالى: "فَرِيقٌ فِي الْجَنّةِ وَفَرِيقٌ فِي السّعِيرِ" (الشورى 7)). ويروى عن الطرماح بن حكيم قال: لقيت حسيناً وقد امترت لأهلي، فقلت: أذكّرك الله في نفسك، فلا يغرّنك أهل الكوفة، والله إن دخلتها لتقتلن، وإنّي أخاف أن لا تصل إليها، فإن كنت مجمعاً على الحرب فانزل (أجا)، فإنّه جبل منيع. والله ما لنا فيه ذلّ قط، وعشيرتي جميعاً يرون نصرتك ما أقمت فيهم، فإن هاجك هايج فأنا زعيم لك بعشرين ألف فارس يضربون بين يديك بأسيافهم، فوالله لا يصل إليك أحد أبداً وفيهم عين تطرف. فقال له: (جزاك الله خيراً، إنّ بيني وبين القوم مواعيد أكره أن أخلفها، وقولاً لسنا نقدر معه إلاّ على الانصراف، ولا ندري على مَ تتصرف بنا وبهم الأمور في عاقبة، فإن يدفع الله فقديماً ما أنعم الله علينا وكفى، وإن يكن ما لا بدّ منه ففوز وشهادة إن شاء الله). قال: فودّعته، وقلت له: دفع الله عنّك شرّ الإنس والجن. إنّي قد امترت لأهلي ميرة من الكوفة، ومعي نفقة لهم فآتيهم فأضع ذلك فيهم، ثم آتيك إن شاء الله، فإن لحقتك لأكوننَّ من أنصارك. فقال عليه السلام: (إن كنت فاعلاً فعجّل رحمك الله).
https://telegram.me/buratha