الدكتور فاضل حسن شريف
جاء في کتاب الحسين عليه السلام في مواجهة الضلال الأموي وإحياء سيرة النبي صلّى الله عليه وآله وعلي عليه السلام للسيد سامي البدري: عن علي بن الحسين عليه السلام يواصل عمله التبليغي وهو أسير: روى ابن أعثم الكوفي قال: وأُتي بحرم رسول الله صلى الله عليه وآله حتّى أُدخلوا مدينة دمشق من باب يُقال له: باب توما، ثمّ أُتي بهم حتّى وقفوا على درج باب المسجد حيث يُقام السبي، وإذا شيخ قد أقبل حتّى دنا منهم، وقال: الحمد لله الّذي قتلكم وأهلككم، وأراح الرجال من سطوتكم، وأمكن أمير المؤمنين منكم. فقال له عليّ بن الحسين عليه السلام: (يا شيخ هل قرأت القرآن؟). فقال: نعم، قد قرأته. قال: فعرفت هذه الآية "قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى" (الشورى 23)؟ قال الشيخ: قد قرأت ذلك. قال علي بن الحسين عليه السلام: (فنحن القربى يا شيخ). قال: فهل قرأت في سورة بني إسرائيل: "وآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّه" (الاسراء 26)؟ قال الشيخ: قد قرأت ذلك. فقال عليّ عليه السلام: نحن القربى يا شيخ. ولكن هل قرأت هذه الآية: "واعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى" (الأنفال 41)؟ قال الشيخ: قد قرأت ذلك. قال علي عليه السلام: فنحن ذو القربى يا شيخ، ولكن هل قرأت هذه الآية: (إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً)؟ قال الشيخ: قد قرأت ذلك. قال علي عليه السلام: (فنحن أهل البيت الذين خصّصنا بآية التطهير). قال: فبقي الشيخ ساعة ساكتاً نادماً على ما تكلّمه، ثمّ رفع رأسه إلى السماء، وقال: اللّهمّ إنّي تائب إليك ممّا تكلّمته، ومن بغض هؤلاء القوم، اللّهمّ إنّي أبرأ إليك من عدو محمّد وآل محمّد من الجنّ والإنس.
وعن خطبة زينب في مجلس الخلافة يقول السيد سامي البدري حفظه الله: روى ابن طيفور قال: فلمّا مثُلوا بين يديه أمر برأس الحسين فأُبرز في طست، فجعل ينكت ثناياه بقضيب في يده وهو يقول: يا غرابَ البين أسمعت فقلْ * إنّما تذكر شيئاً قد فُعلْ ليت أشياخي ببدرٍ شهدوا * جزعَ الخزرج من وقع الأسلْ حين حكّت بقباءٍ بركها * واستحرَّ القتلُ في عبد الأشلْ لأهلّوا واستهلوا فرحاً * ثمّ قالوا يا يزيد لا تُشلْ فجزيناهم ببدرٍ مثلها * وأقمنا ميلَ بدر فاعتدلْ لستُ للشيخين إن لم أثأَرِ * من بني أحمدَ ما كان فعلْ. فقالت زينب بنت علي عليه السلام: صدق الله سبحانه حيث يقول: "ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ" (الروم 10). ثم أورد ابن طيفور تمام خطابها رضياللهعنها، ونحن نورد الخطبة برواية ابن طاووس، لأنّها أفصح وأتمّ في بعض الموارد. أظننتَ يا يزيد حيث أخذتَ علينا أقطارَ الأرض وآفاق السماء، فأصبحنا نُساق كما تُساق الأسارى، أنّ بنا على الله هواناً، وبك عليه كرامة، وأنّ ذلك لعظم خطرك عنده، فشمختَ بأنفك، ونظرت في عطفك، جذلان مسروراً، حين رأيت الدنيا لك مستوسقة، والأمور متّسقة، وحين صفا لك ملكنا وسلطاننا؟ فمهلاً مهلاً! أنسيت قول الله تعالى: "ولا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَِنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ" (آل عمران 178)؟ أمن العدل يابن الطلقاء تخديرَك حرائرَك وإماءَك، وسَوْقَك بنات رسول الله سبابا، قد هتكت ستورهنّ، وأبديت وجوههنّ، تحدو بهنَّ الأعداء من بلد إلى بلد، ويستشرفهنّ أهل المناهل والمعاقل، ويتصفّح وجوههنَّ القريب والبعيد، والدنيّ والشريف، ليس معهنّ من حُماتهنّ حمي، ولا من رجالهنّ ولي؟ وكيف يرتجى مراقبة مَنْ لفظ فوهُ أكباد الأزكياء، ونبت لحمُه من دماء الشهداء؟ وكيف يُستبطأ في بغضنا أهل البيت مَنْ نظر إلينا بالشَّنَف والشَّنَآن، والإحَنِ والأضغان؟ ثمّ تقول غير متأثم ولا مستعظم: لأهلّوا واستهلوا فرحا * ثمّ قالوا يا يزيد لا تَشلْ. منحنياً على ثنايا أبي عبد الله سيد شباب أهل الجنّة تنكتها بمخصرتك! وكيف لا تقول ذلك وقد نكأت القرحة، وأستأصلت الشأفة بإراقتك دماء ذريّة محمّد صلى الله عليه وآله، ونجوم الأرض من آل عبد المّطلب؟ وتهتف بأشياخك زعمت أنّك تناديهم فلتردنّ وشيكاً موردهم، ولتودّنّ أنّك شُلِلْت وبَكُمت، ولم تكن قلت ما قلت، وفعلت ما فعلت. اللّهمّ خذ لنا بحقّنا، وانتقم مّمن ظلمنا، واحلل غضبك بمَنْ سفك دماءنا، وقتل حماتنا. فوَالله ما فريت إلاّ جلدك، ولا حززت إلاّ لحمك، ولتردنّ على رسول الله صلى الله عليه وآله بما تحمّلت من سفك دماء ذرّيتّه، وانتهكت من حرمته في عترته ولحمته، حيث يجمع الله شملهم، ويلمّ شعثهم، ويأخذ بحقّهم، "ولا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ" (آل عمران 169).
وعن انكسار حاجز الخوف عند البعض يقول السيد البدري حفظه الله في كتابه: قال ابن الأثير وروى الأوزاعي، عن شداد بن عبيد الله قال: سمعت واثلة بن الأسقع وقد جيء برأس الحسين، فلعنه رجل من أهل الشام ولعن أباه، فقام واثلة وقال: والله، لا أزال أحبّ علياً والحسن والحسين وفاطمة بعد أن سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول فيهم ما قال، لقد رأيتني ذات يوم وقد جئت إلى النبي صلى الله عليه وآله في بيت أمّ سلمة، فجاء الحسن فأجلسه على فخذه اليمنى وقبّله، ثمّ جاء الحسين فأجلسه على فخذه اليسرى وقبّله، ثمّ جاءت فاطمة فأجلسها بين يديه، ثم دعا بعلي، ثمّ قال: "إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً" (الأحزاب 33). قال شداد: قلت لواثلة: ما الرجس؟ قال: الشك في الله عز وجل. عن شداد أبي عمّار قال: دخلت على واثلة بن الأسقع وعنده قوم، فذكروا عليّاً، وفي رواية ابن أبي شيبة والحسكاني: فشتموا، فشتمته معهم، فلما قاموا قال: شتمت هذا الرجل؟ قلت: رأيت القوم شتموه فشتمته معهم. فلمّا قاموا قال لي: ألا أخبرك بما رأيت من رسول الله صلى الله عليه وآله؟ قلت: بلى. قال: أتيت فاطمة رضي الله تعالى عنها أسألها عن علي، قالت: (توجه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله). فجلست انتظر حتّى جاء رسول الله صلى الله عليه وآله، ومعه علي وحسن وحسين رضي الله تعالى عنهم، آخذ كل واحد منهما بيده حتّى دخل، فأدنى علياً وفاطمة فأجلسهما بين يديه، وأجلس حسناً وحسيناً كلّ واحد منهما على فخذه، ثمّ لفّ عليهم ثوبه (أو قال: كساء)، ثمّ تلا هذه الآية: "إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراًً" (الأحزاب 33)، وقال: اللّهمّ هؤلاء أهل بيتي، وأهل بيتي أحق. قال ابن أبي شيبة: قال أبو أحمد العسكري: يُقال أن الأوزاعي لم يرو في الفضائل حديثاً غير هذا، والله أعلم. قال: وكذلك الزهري لم يرو فيها إلاّ حديثاً واحداً، كانا يخافان بني اُميّة.
يقول السيد سامي البدري في كتابه الحسين عليه السلام في مواجهة الضلال الأموي وإحياء سيرة النبي صلّى الله عليه وآله وعلي عليه السلام: ممّن ندم على مقاتلته: حفظت لنا كتب التاريخ كلمات وأبيات للمشاركين في قتل الحسين عليه السلام تكشف لنا عن ندمهم، منهم رضي بن منقذ العبدي، وينسب إليه قوله: لو شاء ربّي ما شهدتُ قتالهمْ * ولا جعلَ النعماء عندي ابن جابرِ لقد كانَ ذاك اليوم عاراً وسُبَّة * يعيِّره الأبناء بعد المعاشرِ فيا ليت أنّي كنت من قبل قتلِهِ * ويوم حسين كنت في رمس قابر. كانت هذه ردود فعل سريعة وانتهت سريعاً أيضاً. قال ابن أعثم: لمّا قُتل الحسين عليه السلام استوسق العراقان جميعاً (الكوفة والبصرة) لعبيد الله بن زياد وأوصله يزيد بألف ألف درهم جائزة، ثمّ علا أمره، وارتفع قدره، وانتشر ذكره، وبذل الأموال، واصطنع الرجال، ومدحته الشعراء حتّى قال فيه المليح بن الزبير الأسدي: إليك عبيد الله تهوى ركابنا * تسعفُ إخوانَ الفلاةِ وتدأبُ إذا ذكروا فضل امرئ ونوالَهُ * ففضلُ عبيد الله أسنى وأطيبُ. أقول: استمر الحال كذلك إلى قريب من سنتين حتّى ثار أهل المدينة، ولم تكن ثورتهم لأجل إحياء خطّة الحسين عليه السلام، بل كانت تأثّراً بثورته وشهادته. واقتص منهم يزيد بقسوة متناهية. ثمّ غزا البيت الحرام، حيث كان عبد الله بن الزبير قد أعلن ثورته هناك، ورماه بالمنجنيق. ثمّ بتر الله عمر يزيد "هُو يُحيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ" (يونس 56)، فمات بعد قتل الحسين بثلاث سنوات. واستقال ابنه معاوية الثاني بعد أن جاءته البيعة من الآفاق: "وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِه" (الأنفال 24). واقتتل أهل الشام على السلطة. وتزلزلت الأرض تحت بني اُميّة حتّى انهار حكمهم سنة 132 هجرية.
وعن ثورة مطرِّف بن المغيرة بن شعبة يقول السيد البدري حفظه الله: حاول مطرف في ثورته أن يحيي منهج ابن الزبير بشكل عام، فقد أعلن ثورته عام 77 هجرية وخلع عبد الملك والحجّاج، ويروي البلاذري عن أبي عبيدة وابن الهيثم أنّ مطرفاً سمع الحجّاج يقول: أرسول أحدكم أكرم أم خليفته؟ فوجم، وقال: كافر، والله والله إنّ قتله حلال. وكان ممّا خطب به مطرِّف أصحابه: إنّ الله كتب الجهاد على خلقه وأمر بالعدل والإحسان، وقال فيما أنزل علينا: "وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الإِْثْمِ وَالْعُدْوانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ" (المائدة 2)، وإنّي أُشهد الله أنّي قد خلعت عبد الملك بن مروان والحجّاج بن يوسف، فمَنْ أحبّ منكم صحبتي، وكان على مثل رأيي فليتابعني، فإنّ له الأسوة وحسن الصحبة، ومن أبى فليذهب حيث شاء، فإنّي لست أحبّ أن يتبعني مَنْ ليست له نيّة في جهاد أهل الجور. أدعوكم إلى كتاب الله وسنّة نبيّه وإلى قتال الظلمة، فإذا جمع الله لنا أمرنا كان هذا الأمر شورى بين المسلمين يرتضون لأنفسهم مَنْ أحبّوا. وكان ممّا يكتبه إلى الآخرين: أمّا بعد، فإنّا ندعوكم إلى كتاب الله وسنّة نبيّه، وإلى جهاد مَنْ عَنِدَ عن الحقّ واستأثر بالفيء، وترك حكم الكتاب. انتهت هذه الثورة بمقتل مطرف على يد قوات الحجّاج على مقربة من أصفهان.
https://telegram.me/buratha