طاهر باقر
تفتخر الامم اليوم بسجلها في مجال احترام حقوق الانسان وتتبادل البلدان المتعادية الاتهام في مجال انتهاك حقوق الانسان كاسلوب لاظهار تخلف تلك البلدان وعجز انظمتها عن رعاية حقوق مواطنيها مما يدل ان هذه القضية هي من القضايا الهامة على صعيد الحضارة الانسانية.
واذا كانت هي من اولويات البشرية في هذا العصر ندرك اهمية رسالة الحقوق التي بثها الامام السجاد علي بن الحسين عليه السلام باعتبارها النص الاول الذي عرفه العهد الاسلامي الاول بل هو من اقدم النصوص على مستوى تاريخ البشرية بكل اديانها وشرائعها السماوية والارضية.
رسالة الحقوق هي مفخرة للمسلمين ويمكن ضمها الى قائمة التراث العالمي، ومن هنا ادعو المؤسسات التعليمية في البلدان العربية ان تضع هذه الرسالة ضمن موادها التعليمية بل وتحفيظها للناشئة لما لها من دور في بناء شخصية الفرد وتقويم فكره وتوجيه سلوكه.
والمثير ان هذه الرسالة تشتمل على امور وحقوق قد لاتكون محل اهتمام الاشخاص في مثل هذا الزمان مثل حقوق الجوارح والاعضاء فمن جميل مايقوله الامام صلوات الله عليه (وأما حق اللسان فاكرامه عن الخنى"الفحشاء" وتعويده على الخير، وحمله على الأدب، واجمامه "امساكه" لموضع الحجة والمنفعة للدين والدنيا، واعفاؤه عن الفضول الشنعة القليلة الفائدة، التي لا يؤمن ضررها مع قلة عائدتها وبعد شاهد العقل والدليل عليه، وتزين العاقل بعقله حسن سيرته في لسانه).
تضع الرسالة الانسان في اجواء المسؤولية الملقاة على عاتقه في بناء الحياة على افضل وجه ممكن وان يشعر بالمسؤولية تجاه ابسط الامور واكبرها ويقول عليه السلام وأما (حق السمع فتنزيهه عن أن تجعله طريقاً إلى قلبك إلا لفوهة كريمة تحدث في قلبك خيراً، أو تكسب خلقاً كريماً، فإنه باب الكلام إلى القلب، يؤدي إليه ضروب المعاني على ما فيها من خير أو شر).
اضافة الى ذلك يفصل الامام السجاد في حق الرجلين واليدين والبطن والفرج وكذلك يشرح باسهاب بشأن حقوق الافعال مثل الصلاة والصيام والزكاة ويذكر عليه السلام : ( أما حق الصلاة فأن تعلم أنها وفادة إلى االله، وأنك قائم بها بين يدي االله، فإذا علمت ذلك كنت خليقاً أن تقوم فيها مقام الذليل، الراغب، الراهب، الخائف، الراجي، المسكين، المتضرع، المعظم من قام بين يديه، بالسكون والاطراق وخشوع الأطراف، ولين الجناح، وحسن المناجاة له في نفسه، والطلب إليه في فكاك رقبتك التي أحاطت به خطيئتك، واستهلكتها ذنوبك).
ولاشك ان هذه الرسالة ستساعد الشعوب والامم على زيادة معرفتها بخصوص قضية بمثل هذه الاهمية وهي الآن تصبح القضية الاولى في العالم، وتبرز اهمية هذه الرسالة والمبادئ التي تتضمنها من كونها ظهرت للعلن في وقت لم تكن البشرية تعرف معنى الحقوق بل وكانت الدماء تسيل من ايدي الحكام الذين كانوا يعتبرون السلطة هي قطب الرحى في الحق والباطل وليس مبادئ الاخلاق والدين، وان الحاكم هو الذي يحدد مسار الحق والباطل وليس مبادئ الدين والاخلاق الشريفة.
وفي هذه الرسالة الاستثنائية يضع الامام السجاد عليه السلام حدود القواعد التي تنظم العلاقة بين افراد المجتمع الواحد وعلاقة الافراد داخل الاسرة والحقوق الواجبة على الحاكم ان يوفرها لشعبه وكذلك حقوق الحاكم على شعبه وبصورة اشمل يضع الامام تصورا لما يجب ان تكون عليه العلاقة بين الخالق والمخلوق .
ويكشف الامام السجاد عليه السلام في هذه الرسالة ان شؤون الدولة تقوم على اساس العلاقة السليمة بين الافراد وفئات المجتمع المختلفة وكذلك العلاقة بين الحاكم والمحكوم ويقول (فأما حق سائسك بالسلطان فإن تعلم أنك جٍُعلت له فتنة، وأنه ابتلي فيك، بما جعله االله له عليك وقد بُسطت يده عليك، فتكون سبب هلاك من السلطان، وأن تخلص له في النصيحة، وأن لا تماحكه نفسك “المماحكة: النقاش في ما لا طائل تحته” وهلاكه، وتذلل وتلطف لاعطائه من الرضى ما يكفه عنك، ولا يضر بدينك، وتستعين عليه في ذلك بالله، ولا تعازه “لا تعازه: أي لا تعارضه في العزة” وعرضته للهلكة فيك، وكنت خليقاً أن تكون معيناً له على نفسك، وشريكاً له في ما أتى إليك ).
وفي زمن الضياع والتيه يضيئ الامام السجاد عليه السلام سراج النجاة لكافة المسلمين الذين تحرفهم جماعات التكفير عن جادة الحق وتدفعهم الى قتل بعضهم بعضا فالامام هنا يبين مايجب على المسلم ان يضمره في دخيلة نفسه تجاه اخوانه المسلمين من المودة والاخاء وان لايستعلي ولايستكبر عليهم وان يكون رفيقا بمسيئهم وان يعمل على التأليف مابين قلوبهم وان يكون خير ناصر لهم ومعين ويقول الامام (وأما حق أهل ملتك عامة فاضمار السلامة، ونشر جناح الرحمة، والرفق بمسيئهم وتألفهم، واستصلاحهم، وشكر محسنهم إلى نفسه، وإليك، فإن إحسانه إلى نفسه إحسانه إليك، إذ كف عنك أذاه، وكفاك مؤونته، وحبس عنك نفسه، فعمهم جميعاً بدعوتك، وانصرهم جميعاً بنصرتك، وأنزلهم جميعاً منازلهم، كبيرهم بمنزلة الوالد، وصغيرهم بمنزلة الولد، وأوسطهم بمنزلة الأخ، فمن أتاك تعاهدته بلطف ورحمة، وصل أخاك بما يجب للأخ على أخيه).
هذا الفكر له قيمة وقد لايعرفها اغلب الناس لكن من يعرف اهل البيت يدرك ان علومهم ورثوها عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولهذا السبب استحقوا الرفعة بين الناس وتفوقوا بها حتى على حكام زمانهم، ويذكر المؤرخون انه لما اقبل هشام بن الحكم – الامير الاموي - الى مكة ليحج ولم يقدر على استلام الحجر بسبب الزحام نصب له منبر فجلس عليه وأطاف به أهل الشام فبينما هو كذلك إذ أقبل علي بن الحسين وعليه إزار ورداء، من أحسن الناس وجها وأطيبهم رائحة، فجعل يطوف فإذا بلغ إلى موضع الحجر تنحى الناس حتى يستلمه هيبة له ، فقال شامي : من هذا يا أمير المؤمنين ؟ فقال : لا أعرفه ، لئلا يرغب فيه أهل الشام فقال الفرزدق الشاعر المعروف وكان حاضرا : لكني أنا أعرفه ، فقال الشامي : من هو يا أبا فراس ؟ فأنشأ قصيدة ذكر بعضها في الأغاني ، والحلية ، والحماسة ، والقصيدة مطلعها :
يا سائلي أين حل الجود والكرم ؟ عندي بيان إذا طلابه قدموا
هذا الذي تعرف البطحاء وطأته والبيت يعرفه والحل والحرم
هذا ابن خير عباد الله كلهم هذا التقي النقي الطاهر العلم
هذا الذي أحمد المختار والده صلى عليه إلهي ما جرى القلم
https://telegram.me/buratha
![](https://telegram.org/img/t_logo.png)