في كل يوم تخطو العراقية خطوة إلى الأمام باتجاه الترشيح الرسمي للدكتور عادل عبد المهدي كرئيس للوزراء، وفي كل يوم يزداد التمحيص لمواقف المجلس الأعلى، وحينما غدت العراقية على قاب قوسين أو أدنى من إعلان ترشيحها الرسمي معربة عن تنازلها عن مطلبها القديم في ترشيح الدكتور أياد علاوي حري بنا أن نراقب موقف المجلس الأعلى، لأن موقف العراقية يمكن أن يفسر بعشرات التفسيرات منها ما هو سلبي منها ومنها هو إيجابي، ولكن المجلس الأعلى في الواقع حاصر ساحة مناورته بأسس وثوابت وقيم، وبالنتيجة لا توجد تفسيرات كثيرة أمامه، وحينما نريد ان نحاسبه لا بد لنا من أن نسترجع بذاكرتنا المواقف المعلنة للمجلس الأعلى، وهي باختصار:
أولاً: حكومة شراكة وطنية كاملة، أي شراكة كل المكونات الوطنية.
ثانياً: حكومة استيعاب القوى السياسية والتعاون معها، وليس حكومة تهميش لطرف أو اقصاء لطرف.
ثالثا: حكومة تلتئم فيها عناصر النجاح، ويكون قرارها قرار الوطن، وبالتالي فإن قرارها ينبع من داخل مجلس النواب الذي لا يوجد أي مجال لزنة موقف الشعب العراقي إلا من خلاله.
أمام هذه المواقف التي سبق للمجلس الأعلى أن تحدث بها كثيراً نجد أننا أمام ساحة مناورة ضيقها المجلس على نفسه، ولم يفتحها أمامه لتستوعب كل الخيارات، ولا عيب في ذلك إن كان المجلس الأعلى يتبع قيمه وأهدافه المبنية على المصالح العامة لا على المصالح الضيقة، وهي في نفس الوقت عيب كبير إن كان المجلس الأعلى يمارس التكتيك لغرض الوصول إلى رئاسة الوزراء وبعدها ليكون ما يكون سيان اكان صادقاً أو كان كاذباً في وعوده وأفكاره التي يتحدث بها قبل مرحلة الوصول إلى هذا المنصب.
ولا أخفي إني كنت احتبس أنفاسي خشية أن يتحطم آخر من تبقى في جعبة الالتزام القيمي والأخلاقي في السياسة، إذ لا زالت مواقف المجلس الأعلى تنعش فينا هذه الروح بعد ان غدت الساحة السياسة ساحة لتلامذة ميكافيلي ونظرائه ممن يعتقدون إن الغاية تبرر الوسيلة، وحينما تحدث الشيخ الصغير لوكالة (نينا) الخبرية وقال: ليس المهم لدينا ان يطرح هذا الاسم او ذاك بقدر ما ان يكون المرشح مقبول من قبل الجميع وهذا الشيء نعده الاهم اذ لابد ان يكون المرشح لرئاسة الحكومة ان تتوفر لديه المقبولية الوطنية الواسعة، ان التأييد لعبد المهدي يعد خطوة بالاتجاه الصحيح ولكن نحتاج ما يمكن ان يطمئننا الى تشكيل حكومة الشراكة الوطنية الكاملة واكد :" من دون حكومة الشراكة الوطنية لايمكن لنا ان نخطو اية خطوة ولانعالج الخطأ بخطأ اخر.
هنا شعرت باطمئنان أكبر باتجاهين، الأول: إن مواقف المكوّن السني اقتربت بشكل كبير من مواقف المكوّن الشيعي عبر أحد فصائله الأساسية وضمن إطار العملية السياسية، وهذا أمر له أهميته البالغة التي لا يجب أن تغيب عن الناظرين خصوصاً في شعب أراد له الإرهاب وحزب البعث المجرم ان يعيش متناحراً طائفياً تارة وقومياً أخرى وحزبياً ثالثة
والثاني: إن المجلس الأعلى لم يعتبر الموضوع منتهياً وإنما بقي مصرّاً على نفس أفكاره حتى لو إن هذه الأفكار قد تضيق الخناق على مرشحه والذي يلاحظ إن المجلس الأعلى لم يتحدث بشكل رسمي عن الترشيح لحد الآن، وهو يرى إن فوز الدكتور عادل بالمنصب إن كان على طريقة خارج تلك المبادىء فهو معالجة الخطأ بخطأ آخر.
يبقى الكلام عن محتويات ما يجري التحدث عنه من اتفاق بين الطرفين، ويمكن هنا ان تنطلق التكهنات إلى آخر مدى، كما ويمكن أن يتأنى المتكهنون ويصبروا حتى يروا ما يمكن للأيام أن تكشفه من حقائق لا فرضيات في شأن هذا الاتفاق، ولكن ما أعتقده هو إن سياسة المجلس الأعلى المعلنة وفق ما أشرت إليه لن تخرج بالاتفق على المحاور التالية:
أ: قبول المكوّن الكردي لهذا المشروع والاتفاق.
ب: تأمين المقبولية الشيعية الكبيرة له، ولا يعتبر المجلس الأعلى في تصوري إنه هو فقط يمثل الشيعة، وإنما لا بد من تأمين المقبولية لدى التيار الصدري على الأقل، ولا أعتقد إن حزب الفضيلة بعيدة عن ذلك.
ج: عدم الاخلال في توازن القوى الاجتماعية طالما إن المعادلة الانتخابية وبالرغم من كل التلاعب الذي حصل بها، لم تغير في عملية التوازن.
د: تأمين مشاركة الجميع في الحكومة القادمة.
وأمام المجلس الأعلى في ما اعتقد سيناريوات متعددة، ولكن أهمها هو أن يفاوض على أساس ال(159) مقعداً، وليس على مقاعده أو مقاعد الائتلاف الوطني، وهو من يعطي أصحاب هذه المقاعد حصتهم في الحكومة، وهنا قد يبدو موقف دولة القانون باتجاه الرفض، ولكن واقع دولة القانون يؤكد إن غالبية مكوناتها لو رأت الأمور قد سارت باتجاه غير اتجاههم فإن تأييدهم مكفول تماماً، خاصة من يراقب التشكيلات التي حواها ائتلاف دولة القانون، لا يرى تيارات شعبية، وإنما يرى قوى حكومية أو راغبة في الحكومة، ولهذا لن تفوّت فرصة ذلك، خصوصاً إن المجلس الأعلى معروف عنه بأنه لا يترك الآخرين وراءه، وفي تجربة مجلس الحكم وما سبقها علامة مهمة، إذ لم يقبل المجلس بالاشتراك إن لم يتم إشراك حزب الدعوة، وقد أصر المجلس على أن تكون أول رئاسة لمجلس الحكم خاصة بحزب الدعوة، بالرغم من إنه كان مثخنا بجراح بليغة من حزب الدعوة قبل ذلك بأشهر قليلة أثناء عملية الحوار مع الأمريكيين إذ انشغلت الماكينة الاعلامية للحزب وهي تقطع بأوصال المجلس الأعلى وعمالته للأمريكان؟؟؟! بصورة شنيعة، ولكن سرعان ما ارتدت هذه الماكنة إلى الهدوء ونست موضوع العمالة حينما اشترك وفد الدعوة في المفاوضات!!! (راجع مقالنا باء تجر وأخرى لا تجر).
أما كيف يتفاوض المجلس الأعلى مع العراقية وفيها من القوى المؤيدة لحزب البعث والارهاب وما إلى ذلك من الأسئلة التي سيبرع في إلقائها العديدين بحسن نية مرة وبخبث مرة أخرى، وللجواب عن ذلك أعتقد إننا يجب أن نرقب الأمور من عدة جوانب:
أولا: هل إن القائمة العراقية هي كذلك؟
ثانيا: هل إن التكوين الذي يكوّن القائمة العراقة يشارك في الحكومة لأول مرة؟
ثالثا: منطق الواقعية السياسية وما يفرضه، بمعزل عما نريد وعما لا نريد، فهذا المنطق يفرض على اللاعبين السياسيين خيارات الواقع لا خيارات عواطفهم ورغباتهم.
في الواقع القائمة العراقية فيها كتل متعددة، وقوى متباينة من اليمين إلى الشمال، ففيها المتدين السني وفيها المتدين الشيعي، وفيها المتطرف الإسلامي وفيها المعتدل الإسلامي، وفيها المتطرف اليساري وأيضا فيها المعتدل الليبرالي، وفيها من لا يخفي نزوعه إلى حزب البعث، وفيها من يجاهر بالعداوة له، ولهذا وضعها كلها في سلة واحدة خطأ كبير ومن يتحدث بهذا المنطق يعرب عن جهل كبير في مكوناتها، وكل هذه القوى ليست جديدة في الواقع السياسي، فلقد كانت موجودة في البرلمان السابق، وغالبيتها كان موجودا قبل ذلك، وهي بالنتيجة كانت مشاركة في الحكومة السابقة (حكومة السيد المالكي) بشكل أساسي، أما حكاية البعث فإن أول السؤال يجب ان يوجّه إلى السيد المالكي، فهل كان قحطان الجبوري وزير السياحة بعيداً عن حزب البعث، أم كان شروان الوائلي بعيداً، هذا إن تكلمنا عن الحكومة، فماذا لو تحدثنا عن إرجاع الآلاف من البعثيين إلى المناصب العليا؟ وقد تم على يد السيد المالكي نفسه.
أما منطق الواقع السياسي فإن القائمة العراقية تتشكل من (91 مقعدا) وهي الممثل الرسمي للمكوّن السني، وأي تغافل عن هذا الرقم واستحقاقاته يمثل جهلاً بأبجديات السياسة والاجتماع.
حسب تصوري فإن أمام دولة القانون خيارين إن أرادت أن تفوّت الفرصة على المجلس الأعلى، فهي إما ان تتراجع عن السيد المالكي وتطرح مرشحاً آخرا، بعد أن بات واضحاً إن الأمل بتفتت العراقية انعدم وتضاءل إلى حد كبير، ولو أردتم نصيحة لا تأتوا بمرشح من حزب الدعوة، لأنكم ستطرحون أمام العراقية خيار الرفض من جديد، أو أن تقبلوا بالانصهار بالمشروع الجديد لو بقي تعنت دولة القانون على هذا المنوال، وهو أمر ليس بعيداً عما يفكر به الدعاة أنفسهم.
محسن علي الجابري
النجف الأشرف ـ ثلمة العمارة
https://telegram.me/buratha