لا أدري لم كل الأمور تأخذ آخر المقاسات وأشدها انحداراً في العراق، فلو أحببنا أحداً أهلكنا أنفسنا وعادينا العالم وتغنينا به حتى لو كان هو الأقبح واعتبرنا صوته بمثابة سمفونية كبرى تضاهي أعمال باخ وبيتهوفن حتى لو كان هو لا يضاهي بصوته حتى الحمار، ولو كرهنا احداً فإن كل شيء فيه سيكون مكروهاً.. بره وتقواه ستتحول إلى فاحشة ورذيلة.. صلاحه وخيره سيتحول إلى فساد وطيش.
لا أدري لماذا لا تغادر مقاييسنا رقمي الصفر والمائة، فإما مائة وإما صفر أما ما بينهما من أرقام فلا ينظر إليها أحد وكانها ليست موجودة، وبالرغم من أننا نتحدث عن سياسة النصف الآخر للكأس إلا أن هذا الحديث نستخدمه حينما نرى المحبوب يقطع ألستنا عن الحديث عن الكأس كاملاً برذائله أو قبح أعماله، ولهذا نحاول ان نهوّن الخطب فنتحدث عن النصف الثاني من الكأس، ولكن حينما نكره فإن ثلثا الكأس إن كانت صافية ورقراقة فإنها لا تمنعنا من القول بأن الكأس مليئة بالكدر..
لا أريد أن أحلل هذه الظاهرة اجتماعياً، ولكن هذه الحالة هي التي تتمثل أمام الرائي حينما يطالع مواقف الناس على صراعات السياسيين، وهي التي تمثل الواقع الذي يجب علينا ان نتعايش معه، فالبارموتر لا يتحرك بناء على مصالح الناس ومنافعهم، وإنما في غالبية الأحيان يتحرك بناء على فقرهم وفاقتهم، فيتحمسون لمن أفقرهم ويتنكرون لمن يريد الخير بهم، وفي كل الحالات يبقى بريق الموقف الإعلامي لا الواقعي هو الذي يجعلنا نحب ونكره، ولو قدّر لي ان أنزل إلى واقعنا السياسي المعاصر ونحن نعيش هذه الأزمة التي تكاد ان تسير باتجاه الاستعصاء أجد أن المتصارعين مهما كانت النتائج بالنسبة لهم سيغنمون لأن أناساً سذجاً مثلي سيبقى إما يصفق لهذا أو يصفق لذاك، ولكن ماذا لو قلبنا موجة التفكير والتقييم؟ ماذا لو قلنا إن المتصارعين هم الذي سيكسبون مهما كانت النتائج وعلينا ان نفتش عما ننتفع به، فمن من هؤلاء المتصارعين كان صادقاً مع مواطنيه في طبيعة العلة التي جعلت على طرفي نقيض مع الآخرين؟ من الذي شافههم بخلفيات مواقفه؟ وما يبتغي من ذلك؟ إذا كان المواطن هو الغائب الوحيد عن هذه الصراعات حسب خطب احد المطلعين على الكواليس، فما لهذا المواطن يتصارع من أجل من نساه؟
أترى كان أياد علاوي صادقاً حينما قال بأنه ضد الديكتاتورية التي تزحف بشكل متسارع بإدارة المالكي؟ إذن ماذا يعني اصطفافه مع بقايا البعثيين الذين صنعوا واحدة من أبشع ديكتاتوريات التاريخ؟
أترى كان السيد البارزاني صادقاً حينما كان يتحدث عن أمن الآكراد؟ إذن من الذي جعل الأكراد في نظر الشارع العراقي وكانهم شعب الله المختار؟ وحينما تحدث عن أن الإتحاد يأكل الإقليم هل كان جاداً حينما سمح للأقليم أن يتمدد على حساب الاتحاد؟
والنجيفي الذي تحدث عن أن المالكي أجندة إيرانية؟ هل كان صادقاً حينما سمح لنفسه بان يكون منفذا للسياسة التركية، وتاريخ العلاقة بين أسرته وبين الأتراك تشهد بتاريخ عميق كاد يؤدي إلى قضم الموصل لصالح الأتراك بسعي من عائلة النجيفي بالتحديد.
أترى كان المالكي صادقاً حينما قال بوجود اصطفاف بعثي مع أجندة قطرية سعودية؟ إذن ما سر تشبّث المالكي بعشرات الآلاف من البعثيين؟ وما سر تسليم الدولة بمفاصلها الحاسمة بيد هؤلاء؟ هل باستطاعة المالكي أن يثبت أن ضباط الدرجة الأولى ليس فيهم بعثياً؟ هل باستطاعة المالكي أن يشير إلى أن الغالبية العظمى من رؤساء ومدراء الدواوين والمديريات والأقسام لم يك لهم نصيب من عضوية فرقة فما فوق؟.. وإذا كان الحديث عن أجندات خارجية هل كان خافياً عليه ذلك حينما اتفق معهم في أربيل دون غيرهم؟ ام أن هذه الاجندة ولدت للتو؟ وتآمرت عليك؟ وهل ان حديث الخصوم ليس دقيقاً حينما يتحدثون عن الديكتاتورية التي تشبث بها، في وقت يشهد الواقع أن كل القوى الأمنية بيده، وأن كل المفاصل الاقتصادية بيده وأن تأثيره على القضاء بات حاسماً جداً، وأن القانون إنما هو خرقة تعلق على شماعة جلد الفقير والمحروم أما كبار المفسدين والمتمردين على الدستور فكل وحظه من أحاسيس السيد رئيس االوزراء ويا ويل من يأتي خبره في يوم نحس عند السيد الديمقراطي والقانوني، أما حينما يأتي خبره في يوم سعده فغض النظر وكلمة بسيطة تتعالج هي السائدة، ويكفي أن نتساءل عن سر عودة مشعان الجبوري وعن سرالسماح لطارق الهاشمي أن يطير من مطار بغداد.
لا أريد أن استرسل وآتي ببقية أسماء وأفعال المتناحرين، فالواقع يشهد أنه لا يوجد فيهم من يحكي الحقيقة لمواطنيه كمما هي دون أن يخفي ما في بواطنه من مصالح ومساعي، وأنا لا أنكر على السياسي أن يبيّت في داخله من هذه المصالح ما يريد، ولكن حرق الشارع والمجتمع والدولة العراقية بهذه الصورة هو الذي يجعل ظاهر تناحر هؤلاء ولهاثهم مسترذلاً جداً لأنهم يحرقون العراق من أجل مصالح ضيقة، فلو كانوا ديمقراطيون كما يزعمون ودستوريون كما يقولون وقانونيون كما يدعون فلم هذه الضجة على قصة حجب الثقة؟
إذ أن المعروف أن مسألة حجب الثقة مسألة تحصل في كل البلدان التي فيها نظام ديمقراطي، ولا تنتهي الدنيا لو حصلت ولا تسقط الدنيا لو لم تحصل، اما لدينا في العراق فيكفي أن تراقب تصريحات بقية جوقة الطبالين والزمارين فهذا يهدد بانسلاخ المحافظة الفلانية وذاك يؤكد أنه سينفصل عن العراق والثالث يعتبر انها ستؤدي إلى انهيار العملية السياسية والرابع والخامس، وكلهم كذابون بامتياز..
فحجب الثقة حصل او لم يحصل هو شان مثله مثل أي قانون يعرض على البرلمان ويمارس البرلمان دوره القانوني بشكل طبيعي، ولكن الخرق العراقي في هذا المجال كان كبيراً، فالضجيج حول التواقيع ملأ الآفاق، والتهديد والتهديد المتبادل أصبح خبر المحافل والمنتديات، وزاد رئيس الجمهورية الطين بله حينما طالب بأمر لا حق له به، فقد قرر أن يرى التواقيع قبل أن يرسل طلب حجب الثقة، وكان بإمكانه أن يقول بأنه لا يرسل مثل هذا الطلب ليبقى الاجراء القانوني الآخر بيد البرلمان عبر عملية استجواب، ولا ادري لماذا يخاف الجميع من الجميع، فالاستجواب قصة مضحكة، فغدا لو قال المالكي ما قال في الاستجواب فإن أصوات حجب الثقة جاهزة سلفاً، لأنه ما عاد مصدّقاً من قبل حاجبي الثقة وعجيب لأمر المالكي وهو يرى أن كل هيئة الرئاسة في البرلمان هي من الجناح الاخر، مما يعني أن خيار الاستجواب لن يؤدي إلأ إلى نفس النتيجة إذ لا يوجد أي نص قانوني يجبر البرلماني على أن يصوّت إلا بالطريقة التي يريد لا التي تملى عليه، سواء كانت إرداته هذه عبر كتلته أو عبر رأيه الشخصي.
وفي تقديري فإن عملية التأزيم الحاصلة اليوم والتي يرتكبها الجميع هي عملية فوضوية يراد التغطية بها على واقع مر هو الذي أسس لكل هذا الحرمان الذي يعاني منه المواطن، وإلى كل هذا الخرق الأمني الذي يصيب أمن العراق، وإلى كل هذا الفساد الذي عشعش في كل مناحي دولة يدعي رئيس حكومتها ورئيس جمهويتها ورئيس برلمانها ورئيس قضائها بأن الإجراءات التي ستتخذ ضده ستكون حازمة وكان الجميع في هذا الامتحان راسباً بدرجة حمراء قدرها صفر ولكن بإمتياز يتم تحريره في ساحة التحرير...
لو كان الجميع صادقاً كان بإمكانهم سلوك أحد دربين لا ثالث لهما، إما الخيار القانوني وتمرير عملية التصويت أو الاستجواب على حجب الثقة ضمن السياقات التي أقرها الدستور، لتأتي النتائج كيفما تأتي ويتمتعوا بروح رياضية وبمرونة الديمقراطيين، فلا الخسارة في العملية الديمقراطية تمثل نهاية الدنيا ولا الفوز يمثل الفتح المبين، وإما أن يعودوا بأهون الشرين إلى طاولة المفاوضات ويجلسوا من جديد ليوزعوا الكعكة الفتلاوية بسياق جديد..
صدقوني لا يوجد فيهم أبو تحسين ونعاله الذي شرّف الجميع..
صدقوني ليس فيهم باكياً على ضيم..
ولا لاطما على فقر..
ولا حانياً على يتيم.
وحدها شمهودة هذا الشعب هي التي تبكي وتلطم لأنها بنت الشعب وامه وأخته، أما البقية فضاحكون على عرى هذا الشعب وحرمانه ومرتاحون لفقره من خدماته البسيطة، وطامعون بالمزيد من ثروته...
وإذا كان كل ذلك صحيحاً فدعوني أناشد كل الشمهوديين أن يتركوا اللطم ويلتفتوا إلى صدق شمهودة لأنها وحدها هي الصادقة والبقية هم أمر آخر.... فبحجب الثقة لن تتفتح الدنيا وفي عدمها لن تنتهي، والعكس صحيح أيضا.
محسن علي الجابري
النجف الأشرف ـ ثلمة العمارة
لمن لا يعلم بمثال شمهودة، أقول هو مثل جنوبي يطلق على من يتعب ويشقى مع كبار القوم ولكن حينما تبتدأ عملية القطاف يتم إبعاده ليبقى مع الصغار، ولذلك يقال: لطم شمهودة تلطم مع الكبار وتأكل مع الصغار
https://telegram.me/buratha