المربد/ حيدر الجزائري
تحت ظلال نخيلات قرية (مهيجران) الواقعة في جنوب مركز محافظة البصرة، وحيث قادنا هدير أمواج شط العرب، إلى نهاية طريق (الجلبي) الترابي وتعرجاته الموحشة، ثمة جندي يجلس القرفصاء على الضفاف هناك هو من بقايا حرب الثمانينيات التي ما زالت ماثلة في مخيلته، يشعر أنه لم ينه تخندقه بمواجهة معركة سلبت منه عقله بمدينة المُحمَّرة (خرمشهر) ، ويتراءى له احتدام القتال بكره وفره، متأثراً بصدى أزيز الرصاص وصرير الدبابات ودوي قصف المدافع، وبالرغم من طي صفحة تلك الحرب الطاحنة عام 1988، الا انه ما زال يعيش رعبها لنحو ثلاثة عقود.
شهاب احمد جاسم، من مواليد 1957، قادته آلة الحرب من قاع البساتين، وحولته من فلاّح يتأبط منجلاً يعانق به عذوق النخيل إلى جندي يحتضن البنادق في الجبهات مرغماً، حتى أعادته أيادي المسعفين مع أشلاء زملائه في الخنادق ممن فتكت بهم فكيّ الصراع ونيران القتال، بحالة أشبه بالجنون ولايفقه منه قولاً، وأمسى اليوم معاقاً مهملاً دون علاج أو رعاية أو راتب تقاعدي.
وعن حاله، يحدثنا شقيقه الأصغر هاشم احمد قائلاً ان "شهاب كان فلاحاً معروفاً في مدينة الفاو، ويعشق النخيل وجني ثمارها، إلى انه اجبر على الخدمة العسكرية وزج في معركة مدينة المحمرة في حرب الخليج الأولى (الحرب العراقية - الإيرانية)، وتعرض إلى صدمة عقلية بسبب سقوط صاروخ بالقرب منه وجعلته مجنوناً مذهولاً وعاجزا عن المشي، وأعاده الجيش إلى أهله وحاول معالجته في المستشفيات العسكرية لكنه لم يمتثل للشفاء".
ويتابع لراديو المربد بالقول "ما زاد الطين بلة هو إعدام شقيقنا الثاني من قبل النظام لرفضه الانضمام لصفوف الجيش، الأمر الذي زاد من فاجعتنا كعائلة وتأثر شهاب بشكل مضاعف برحيله وأصيب بجلطه دماغية".
ويضيف ان "زوجته بعد اليأس من حالته تركته وطلبت الطلاق، ولم ينجب منها أطفالا، وأنا الوحيد الذي أرعاه بعدما رفضت جميع الجهات الإنسانية والحكومية شموله بالرعاية ولم يحتسب له اي راتب او حقوق تقاعدية رغم كونه مشلول ولايقوى على الحركة".
شهاب يقضي معظم وقته جالساً القرفصاء بين النخيل في منطقة مهيجران في قضاء أبي الخصيب، وحوله أسلاك شائكة كأنه في موضع عسكري صنعه لنفسه ما يتوقى به من نيران المعارك، فيما لاتفارق عيناه النظر نحو جهة مدينة المحمرة التي يعيش معاناتها منذ انتهاء الحرب في عام 1988 ولغاية اليوم، وينتهي به الليل عائداً ليخلد في خربة هي ابعد من ان تكون عريناً لجندي ينتسب للجيش العراقي في خريف عمره.
مراسل المربد حاول جاهداً محاورته ليتعرف عن همومه ومشاعره، لكن خاطبه بلغة لايفهم منها حتى كلمة واحدة، فيما بدى منظره أشعث أغبر، وأسمرت بشرته بسبب أشعة الشمس، ويكسو بدنه ملابس رثه.
يذكر ان حرب الخليج الأولى التي دامت ثمان سنوات تعد أطول نزاع عسكري في القرن العشرين، وواحدة من أكثر الصراعات العسكرية دموية، خلّفت في معظم عائلات العراق إما قتيل أو أسير أو مفقود، وراح ضحيتها نحو 500.000 عراقي قتيل وأكثر من 50.000 مفقود الى الآن، وسببت خسارة العراق حوالي أكثر من 400 مليار دولار، فضلاً عن الكثير من المعاقين المهملين أمثال شهاب لازالوا دون رعاية إنسانية أو اجتماعية او لفتة حكومية تعوضهم ماخسروه من حروب اجبروا على المشاركة فيها او ربما كانوا ضحايا حروب لم يكونا طرفا فيها، ما جعل البصرة مدينة متقدمة في احتضانها لقصص مأساوية تبحث عن نهايتها.
https://telegram.me/buratha