يبدو أن الأفكار التي تدور في الرأس الأمريكي والعقل الإسرائيلي تتمحور حول الإلتفاف على القضية الفلسطينية من خلال تفكيكها الى أجزاء ومعالجة كل جزء على إنفراد حتى تذوب من تلقاء نفسها وتفقد زخمها وبعدها السياسي، وبالتالي إفتقادها صفة الترابط الذي يجمعها كقضية تمثل شعباً فلسطينياً واحداً فقد موطنه وأرضه نتيجة لإنشاء إسرائيل على جزء من أراضيه، فموضوع السلام الذي يقوم على إنهاء الإحتلال، ومنح الفلسطينيين حقوقهم المشروعة غير قائم في عقلية وإستراتيجية اليمين الإسرائيلي المهيمن على قرارات الحكومة الإسرائيلية، وكل ما يدور حالياً من معركة تفاوضية هي فقط للإستهلاك الإسرائيلي الداخلي من جهة والخارجي من جهة أخرى وخاصة مع الولايات المتحدة الأمريكية، التي تسعى الى تحقيق نقلة نوعية على صعيد عملية المفاوضات، مستثمرة اللحظة التاريخية التي يمر بها العرب في ظل إنشغالهم بأنفسهم، وفي ظل ضعف تأثيرهم المفترض في تحولات القضية الفلسطينية ومجرياتها، حيث أن سوريا غارقة في وضع داخلي بائس، ولا يختلف هذا الوضع عن حال بقية الأقطار العربية الكبيرة مثل مصر والعراق وغيرها.
فالمراقب للسياسات الإسرائيلية التي ينتهجها رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو يرى بدون أدنى شك أنه يرفض رفضاً مطلقاً قيام دولة فلسطينية، فهو وكلما بدا في الأفق أنه هناك حل وشيك قائم على تنازل فلسطيني وضغوط دولية، يقوم بتصعيد إشتراطاته بحيث يستحيل على الطرف الآخر (الفلسطيني) قبول إشتراطه الجديد، من خلال الإشتراط عليه الإعتراف بيهودية دولة “إسرائيل”، فهو يدرك صعوبة موافقة الطرف الفلسطيني على ذلك، وحتى لو تم الإعتراف الفلسطيني به فسيعمل نتنياهو على خلق شرط جديد أكبر وأكثر صعوبة من الأول، فالحكومة الاسرائيلية تريد إستغلال الوقت من أجل شطب مزيد من الحقوق الفلسطينية وإستمرار إحتلالها للأراضي الفلسطينية، مستغلة التداعيات العربية وموقف الإدارة الأمريكية المناصر لها.
واليوم رغم الجولات المكثفة التي يقوم بها وزير الخارجية الأمريكي جون كيري راعي المفاوضات، ومحاولته طرح إتفاق إطار، ينحاز بشكل كبير في مضمونه لإسرائيل، ويقلل من إمكانية إقامة دولة فلسطينية كاملة السيادة ويشرع الإستيطان في الأرض الفلسطينية والقدس والأغوار، ويقضي على قضية اللاجئين إلا أن إسرائيل لم تستطع القبول بهذا الإتفاق وتحاول مراراً التملص وإنهاء الفترة الزمينة المحددة للمفاوضات دون تحقيق أي إنجاز، وذلك من خلال وضع العراقيل والذارئع من أجل إفشالها.
وبموازاة ذلك وجهت الحكومة الإسرائيلية لطمة جديدة لجهود جون كيري لتوقيع هذا الإتفاق يكون إسترشادياً لعملية السلام، بإقرارها بناء أكثر من 300 وحدة إستيطانية جديدة في القدس الشرقية التي يطالب بها الفلسطينيون، عاصمة لدولتهم المستقلة، وجاء هذا القرار على الرغم من التهديدات الدولية بتعريض تل أبيب لمزيد من حملات المقاطعة بسبب إستمرار البناء الإستيطاني، وبدا القرار كأنه رد فعل على هذه التهديدات التي طالب وزراء إسرائيليون بمواجهتها وكأنها لم تكن، إذ سيجرى بناء 223 وحدة إستيطانية في مستوطنة هار حوماه (جنوب شرقي القدس)، و102 وحدة إستيطانية في مستوطنة نيفيه يعقوب شمالها، إضافة إلى 24 وحدة إستيطانية في مستوطنة بسغات زئيف شمال المدينة، وبالتالي تهدف كل هذه المشاريع الإستيطانية الجديدة، التي تتضمن مباني سكنية متعددة الطبقات، إلى تعزيز التجمعات اليهودية فى القدس الشرقية.
وفي السياق نفسه رفضت حكومة إسرائيل مبادرة فلسطينية – أمريكية، لعقد لجنة ثلاثية تبحث في مسألة التحريض والتعليم للسلام في السلطة الفلسطينية وفي إسرائيل، وأشار وزير الشؤون الاستراتيجية يوفال شتاينتس، الذي خوله رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو معالجة المسألة، أوضح للأمريكيين بإن الشرط المسبق لمشاركة اسرائيل في مثل هذه اللجنة سيكون خطوة لبناء الثقة كشطب مضامين تحريضية من عدة مواقع فلسطينية رسمية على الإنترنت على حد قوله.
وبالتالي إن إستمرار السلطة الفلسطينية في المفاوضات مع إسرائيل يشكل خطأً جسيماً في ظل عدم إلتزام الإحتلال بما يتم التوافق عليه أو حتى بالقرارات الدولية، فإسرائيل ترتكب جريمة بمواصلة الإستيطان، كما تسعى لتصفية مشروع الدولة الفلسطينية المستقلة ولا تبدي أي جدية في التوصل للتسوية، فضلاً عن أن الإدارة الأمريكية التي تثبت إنحيازها الكامل لإسرائيل من خلال غض الطرف عن ممارساته وتصريحات قياداتها حول الدولة الفلسطينية والإستيطان، وبالتالي فإن الدولة العبرية هي المستفيد الأول والأخير من إستئناف المفاوضات العقيمة أمام المجتمع الدولي، ومهما حاولت الولايات المتحدة تغطية الحقيقة بزيارات كيري للمنطقة وتصريحاته التي توحي للجميع أن المفاوضات في طريقها للنجاح تبقي الحقيقة أن الولايات المتحدة غير معنية حتى اللحظة بحل جدي للصراع العربي الإسرائيلي، وقد تكون الأسباب مجملها ضعف الجبهة العربية الضاغطة حتى الآن وتفرد الولايات المتحدة بورقة السلام بالشرق الأوسط دون مشاركة من قبل الرباعية الدولية والصين وروسيا.
وفي سلسلة الإنحياز الأمريكي لإسرائيل أكد كيري في المؤتمر الصحفي المشترك، إلى جانب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، “تجديد إلتزام الولايات المتحدة المطلق بأمن اسرائيل”، الذي يعتبر من سلم أولويات البيت الأبيض، وهنا ارى إنه لا يوجد أي ضرورة لإستمرار هذه المفاوضات العبثية بين الطرفين، والتي يستغلها الإحتلال لمواصلة بناء المستوطنات والتهويد في القدس، وفرض الوقائع على الأرض، في ظل محاولات أمريكية لتمرير خطة كيري التي تستهدف القضية وشطب حق العودة للفلسطينيين وإيجاد حل يخدم أمن دولة الإرهاب والإحتلال في المنطقة، وأخيراً محاولته لضم الأغوار إلى دولة الإحتلال قسراً، مما يعكس عدم رغبة حكومة الإحتلال في توقيع الاتفاق المذكور، وأن كافة ما تقوم به إسرائيل وأمريكا هو مراوغة للاستمرار في نهج “المفاوضات من أجل المفاوضات”.
وهنا يمكنني القول إن رؤية الولايات المتحدة الأمريكية الجديدة لدولة فلسطين هي الثمن الذي تريد تقديمه كحافز للكيان الاسرائيلي، ثمناً للمساومات الإقليمية والدولية، مستغلة في ذلك ضعف القيادة الرسمية والصراع بين الفصائل الفلسطينية، ومستخدمة كل أشكال الإنقسام والفوضى السياسية بصنيعة أمريكية وإسرائيلية وبمساعدة دول عربية، كي يمرروا مشروعاً هو الأكثر خطورة على القضية الفلسطينية من كل المشاريع السابقة، وبالتالي أعتقد إن دولة أوباما الفلسطينية ليست سوى إعادة إنتاج مشروع التقاسم الجغرافي الذي ينهي عملياً ورسمياً حق العودة الذي أقرته الأمم المتحدة، وينهي كلياً قيمة القرار التاريخي الذي إتخذته الجمعية العامة ومنحت فلسطين حقها السياسي والقانوني بأن تكون دولة عضو مراقب وعاصمتها القدس الشريف.
وأخيراً اختم مقالتي بالقول، إن حكومة نتنياهو تغلق الباب أمام الحديث عن أي عملية سلام وإنهاء الإحتلال للأراضي الفلسطينية، وتحاول بكل الطرق عرقلة ذلك من خلال تصعيد عدوانها غير المسبوق ونسف المفاوضات من خلال إستمرار عمليات البناء في الأراضي الفلسطينية، والإقتحامات اليومية وإحتلال الأغوار والقدس وإقتحامات الأقصى وغيرها من الممارسات، وبالتالي أرى إن فشل المفاوضات بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية سيعمل على تعاظم عمليات المقاومة بشكل جوهري، من خلال إندلاع إنتفاضة جديدة تعتمد المقاومة الشعبية، وتهدف بشكل أساسي إلى نزع الشرعية الدولية عن إسرائيل.
تحرير علي عبد سلمان15/5/140208https://telegram.me/buratha