في ليلة الثاني والعشرين من شهر حزيران/يوليو لعام 1941 قامت القوات النازية الألمانية بغزو الاتحاد السوفيتي. وبسبب عامل المفاجأة والتفوق العسكري في بداية الحرب، تمكنت القوات الألمانية بسرعة هائلة الدخول إلى عمق البلاد، حيث أصبحت موسكو بعد شهر واحد من بدء الحرب تحت مرمى نيران القاذفات النازية. وقد تبين أن هتلر أمر طياريه بسحق العاصمة السوفيتية عن وجه الأرض. ولهذا شنت مئات المقاتلات الألمانية في 22 من شهر تموز/يوليو لعام 1941 أول غارة على موسكو، وبطبيعة الحال فقد أصبح الكرملين نقطة علامة للمقاتلات الألمانية وهدفاً رائعاً يقع في قلب المدينة
ولكن لدهشة الطيارين الألمان الذين غمروا بطائراتهم سماء موسكو، اختفت الساحة الحمراء والكرملين والمعابد المهيبة ذات القباب الذهبية اللامعة. وبنفس الظروف الغامضة اختفت المصانع العسكرية والمنشآت الأخرى التي كانت أهدافاً محتملة لنيران العدو. وما كان على الطيارين الذين أصيبوا بصدمة إلّا إسقاط القنابل والقذائف بشكل عشوائي والهروب من نيران منظومة الدفاع الجوية السوفيتية.
والسؤال الذي أثار حيرة المراقبين والمحليين هو أين اختفى الكرملين وباقي المعالم التاريخية والأهداف الإستراتيجية؟ نجيب ونقول كل شيء بقي في مكانه ولكن كانت كل هذه الأماكن مخفية بشكل جيد بحيث أصبحت غير مرئية من قبل طائرات العدو.
جدير بالذكر أن عملية تمويه المباني السكنية والمنشآت العسكرية والمواقع الإستراتيجية من الغارات الجوية لم تكن تنفذ على نطاق واسع في ذلك الوقت. ولهذا تعرضت مدن الدول المشاركة في الحرب العالمية الثانية وخاصة العواصم لدمار رهيب. ولهذا اقترحت مجموعة من المهندسين المعماريين السوفييت بقيادة بوريس إيوفان على زعيم البلاد جوزيف ستالين تمويه موسكو لحمايتها من الغارات الجوية.
وبالفعل تم الموافقة على هذا الاقتراح وبدأت الأعمال في هذا الإطار فوراً بدءاً من المباني القديمة والمعالم الأثرية في وسط موسكو والتي تم تمويهها بحيث أصبحت مباني سكنية عادية إذا ما تم النظر إليها جواً، وحتى تفكيك الصلبان من الكنائس وطلي القباب الذهبية باللون الأسود. أما النجوم الحمراء التي كانت تزين قمم أبراج الكرملين تم تغطيتها بأقمشة قاتمة، وتم رسم أشكال النوافذ والأبواب على أسوار الكرملين. أما ضريح الزعيم السوفيتي لينين فقد تم بناء طابقين من الخشب الرقائقي فوقه، في حين تم إجلاء الجثة إلى عمق البلاد بعيداً عن القصف، ولم يرجع لينين إلى مكانه إلا في ربيع عام 1945 قبل وقت قصير من انتهاء الحرب.
يشار إلى أن عملية التمويه لم تكن فقط وسط موسكو والكرملين وإنما شملت معظم المنشآت في العاصمة، حتى أن الصورة الجديدة لموسكو تغيرت بشكل جذري، حيث ظهرت مباني الأشباح وسط الحدائق والساحات وكأنها بيوت سكنية حقيقية، وتم بناء الجسور الكاذبة عبر نهر موسكو.
لذا أصبح التمويه الجيد للمباني والمنشآت مفاجأة حقيقية للطيارين الألمان، بالإضافة إلى منظومة الدفاع الجوية التي دافعت ببسالة عن العاصمة السوفيتية، حتى أن الطيارين النازيين اعترفوا بأن الغارات على موسكو باتت بالنسبة لهم تحد صعب يفوق بكثير ذلك التحدي الذي واجههم عند قصف العاصمة البريطانية لندن. وعلى ضوء ذلك وبعد تكبد خسارة فادحة اضطر الألمان التخلي عن الغارات في أوقات النهار، وقرروا الهجوم على موسكو ليلاً. وهنا حاول الطيارون الألمان العثور على أهدافهم وسط إطلاق كثيف للمدافع المضادة للطائرات ووهج الكشافات الليلية التي تم تسليطها على القاذفات النازية، لكن دون جدوى!. وقد اعتمد الأمان مبدأ الهجوم على مرحلتين: الأولى تلقي القاذفات بقنابلها الحارقة والمضيئة، أما طائرات المرحلة الثانية تقوم بقصف الأهداف المضيئة. ولكن حتى في ظل هذه الظروف لم يكن من السهولة بمكان التمييز بين الأهداف الكاذبة والأهداف الحقيقية. وبالتالي فإن معظم القذائف سقطت بشكل عشوائي وأصابت في أغلبها مباني الأشباح، حتى أن سكان المدينة عمدوا خصيصاً على إضاءة الأهداف الكاذبة لتكون محط اهتمام طائرات العدو.
يشار إلى أن سلاح الجو الألماني كان يعد في ذلك الوقت الأقوى في العالم، وذلك لأن الطيارين الألمان كانوا يتمتعوا بخبرة قتالية لا يستهان بها وانتصارات كثيرة في هذا المجال. وعلى الرغم من زج أفضل الطيارين النازيين لتدمير موسكو إلا أن العاصمة السوفيتية أصبحت بالنسبة لهم بمثابة الجوزة التي لا تكسر، وهذا يعود لمنظومة الدفاع الجوية الفعالة وعمليات التمويه الرائعة التي أنقذت المدينة من دمار محتم.
جدير بالذكر أن الغارات على موسكو استمرت منذ شهر تموز/يوليو لعام 1941 وحتى شهر نيسان/أبريل لعام 1942، وشارك فيها أكثر من 8 ألاف قاذفة ألمانية تمكنت خلال هذه الفترة من تدمير نحو 19 مصنع و227 مبنى سكني، في حين فقد سلاح الجو الألماني نحو 1500 طائرة وهذه تعتبر هزيمة نكراء بالنسبة للنازيين.
وفي شهر كانون الأول/ديسمبر من عام 1941 بدأت الجيوش السوفيتية بشن هجوم مضاد، حيث أجبرت قوات العدو الابتعاد عن العاصمة لمسافة تقدر بمئات الكيلومترات. وفي ربيع العام التالي توقفت الغارات على موسكو وبدأت المدينة تعود إلى الحياة الطبيعية تدريجياً، على الرغم من أن نهاية الحرب كانت بعيدة، حيث تحقق النصر في التاسع من شهر أيار/مايو من عام 1945 عندما تم الاستيلاء على وكر النازيين في برلين.
14/5/140216
https://telegram.me/buratha