ينشغل العالم اليوم بدراسة أثر الأزمة الأوكرانية على السلم العالمي والعلاقات الدولية، وتتداول نخب سياسية وفكرية الأثر المحتمل لهذا النزاع على العديد من أزمات العالم وقضاياه المشتعلة وخاصة بعدما تفاقمت حدة الخلافات بين السلطة والمعارضة بنحو متسارع، فإتهامات وشعارات المؤيّدين والمعارضين عكست الهوّة الكبيرة بين طرفي الأزمة فالمؤيدون يرون أن المعارضة تسعى إلى تحقيق مكاسب سياسية بينما تعتبر الأخيرة أن نظام يانوكوفيتش قضى على “حلم أوكرانيا الأوروبي” وعاد بالبلاد إلى الوراء.
ولأزمة أوكرانيا بعد إقتصادي، لعل روسيا والغرب يملكا أدوار رئيسة فيه فروسيا تريد بقاء أوكرانيا في معسكرها والإتحاد الأوروبي يحاول نزع أوكرانيا لتصبح في صفّه، فالأزمة السياسية والإقتصادية التي تشهدها أوكرانيا ستؤثر على عدد من المصارف الروسية ولا سيما العامة منها، وتأتي المخاطر بشكل أساسي من القروض الممنوحة إلى الشركات الأوكرانية، ورجال الأعمال الروس والأوكرانيين الذين إقتنوا أصولاً في أوكرانيا.
وبعيداً عن الإقتصاد تكاد جميع قوى الموالاة والمعارضة تجمع على أن البلاد باتت ساحة صراع حقيقي شبه معلن بين روسيا والغرب للجغرافيا والبعد الإقتصادي دور كبير في تأطيرها، فمخاطر تجدد المواجهة بين روسيا والغرب بدأت تلوح في الأفق، حيث أن صراع الشرق والغرب على مصير أوكرانيا قد يودي بها للتقسيم أو للإنزلاق لحرب أهلية، فروسيا والقوى الغربية ينظر كل منهما للآخر بنظرية المؤامرة، إذا ترى روسيا أن الإيادي الخفية لأجهزة إستخبارات الدول الغربية هي من أشعلت الوضع في أوكرانيا، وأن صانعي السياسات لديهم يريدون تدمير روسيا كقوة لها ثقل عالمي، بينما يرى الغرب يانوكوفيتش وحاشيته على أنهم مجرد دمى في أيدي بوتين يحركها كيفما يشاء وأن نظام الكريملين يتمتع بفساد وقمع على مستوى واسع.
فالتطورات المتسارعة في أوكرانيا لا تزال تحصل على الحيز الأكبر من إهتمام روسيا في ظل التدخلات الخطيرة للدول الغربية وأميركا في الشؤون الداخلية لها، والتغيرات الكبيرة التي حصلت فيها والتي اعتبرتها موسكو بأنها أصابت أسوارها، فالحقيقة التي يجب أن ندركها بيقين أن الغرب والولايات المتحدة الأمريكية على رأسها حاولت أن تجعل من أوكرانيا ورقة للضغط على روسيا في الكثير من المواقف الدولية، وساهم في ذلك اللوبي الصهيوني الذي دعم المعارضة، على الرغم من وجود أقلية يهودية من أصل أوكراني، وأيضاً “إسرائيل” سارعت بإرسال مساعدات الى يهود أوكرانيا لتأمين إحتياجاتهم في ظل الظروف التي تمر بها كييڤ، كما تصدر اليهودي بينشوك عناوين الصحف اذ أعتبر الممول الأبرز للتظاهرات التي قامت في أوكرانيا، وهنا أعتقد أن ما يجري الآن هو محاولة لأضعاف اوكرانيا من جهة، ومن جهة أخرى الضغط على روسيا للتنازل في مواقف دولية كثيرة.
وبالمقابل حذرت روسيا دول الغرب من محاولات فرض الخيارات على أوكرانيا في مجال المبادئ الأساسية، وقال وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف في مؤتمر صحفي مشترك عقب محادثاته مع وزير خارجية لوكسمبورغ جان أسيلبورن في موسكو “إنه من غير المجدي فرض الخيار على أوكرانيا وفق مبدأ إما أن تكونوا معنا أو أنتم ضدنا وأننا مهتمون بأن تكون أوكرانياً جزءاً من المجتمع الأوروبي بكامل معنى الكلمة”، وأكد أن روسيا لا تنوي التدخل في الشؤون الداخلية لأوكرانيا وتأمل في أن يكون لدى شركائها الأوروبيين الموقف ذاته داعياً إلى ضرورة عدم تدخل الشركاء الغربيين في الشؤون الداخلية لأوكرانيا وأن يستخدموا صلاتهم مع مختلف القوى السياسية في هذا البلد لتهدئة الوضع فيه.
فالسؤال الذي يفرض نفسه هنا بقوة، هل إنشغال موسكو في أزمة أوكرانيا، سيضعف الدول الحليفة لها ” إيران وسوريا؟
من المؤكد أن القيادة الروسية في وضع صعب بفعل ما حدث في الجارة المهمة لها إستراتيجياً، وهذه ستأخذ الكثير من وقتها وجهودها وإنتباهها، والأزمة الأوكرانية في بدايتها وستكبر وتشتعل لأن الغضب الشعبي ضد موسكو سيدفع إلى المزيد من التوتر بدليل أن من أول القرارات التي أصدرها النظام الجديد هو إلغاء الروسية كلغة ثانية رغم وجود روس أوكرانيين، وموازاة ذلك فإن تصريحات المسؤولين الإيرانيين ضد ما حدث في أوكرانيا تنبأ عن قلق حقيقي، وبالتالي فإن إنشغال روسيا بأزماتها سيضعف موقف إيران التفاوضي مع الغرب، وسيفقدها حليفها الذي إستخدمته في قضاياها الإقليمية، وهذا ينسجم أيضاً على سوريا الحليف المقرب من موسكو، والتي ترى بأن سورية هي حجر الزاوية لأمن منطقة الشرق الاوسط، وبالتالي فإن المشهد السياسي ربما يتجه نحو خيارات مختلفة، قد تكون إيجابية لصالح المعارضة السورية بشرط بناء جبهة سياسية موحدة، بمعنى ان الولايات المتحدة والاتحاد الاوروبي يعلبان بالورقة الاوكرانية من اجل إثناء روسيا عن المضي في مواقفها تجاه بعض الملفات الساخنة خاصة في منطقة الشرق الاوسط، سيما الملف السوري، والملف النووي الإيراني.
بالمقابل فإن روسيا التي سعت الى مد نفوذها، ولعبت دوراً كبيراً في إيران والبحر المتوسط والخليج ومصر وسوريا وغيرها من الدول الحليفة، وجدت نفسها أمام نار تمس حدودها، والخطر على روسيا كبير لأن ما جرى في العاصمة الأوكرانية قد يشجع على العصيان في العاصمة الروسية خلال المرحلة القادمة، كما إن خطر إنزلاق أوكرانيا للحرب الأهلية سيكون أيضاً كارثة للإتحاد الأوروبي، مع إشتعال الصراع السوري، سيجد نفسه يحارب على الجبهتين الجنوبية والشرقية له، كما أن الإنهيار الإقتصادي لأوكرانيا وعجزها عن سداد مديونياتها سيكونان سببين كافيين لتدمير روسيا والإتحاد الأوروبي معاً.
وفي سياق متصل يمكن القول إن الرئيس بوتين يدرك جيداً إن الولايات المتحدة وحلفاءها الغربيين يفجرون الأزمة في أوكرانيا للرد عليه في سورية وعلى وجه الخصوص نجاح سياسة موسكو في منع العدوان الأمريكي على سورية وتثبيت خيار الحل السياسي لأزمتها وترتيب المشهد الدولي خلافاً لسياسات الهيمنة الأمريكية والغربية التي بدأت تتهاوى في ظل النجاحات الروسية الصاعدة على مستوى الإقتصاد العالي والإمساك بأوراق اللعبة الدولية وهزيمة المشروع الأمريكي القائم على التحكم بمصير دول العالم وشعوبه دون منازع، بالإضافة الى موقفه من جورجيا.
الحرب الباردة إشتعلت مع فارق أساسي عن نظيرتها السابقة، وهو إن الإمبراطورية الأمريكية تعاني من أعراض الإنكماش وخاصة على المستوى الإقتصادي، بينما روسيا إستطاعت تعزيز إقتصادها، وتجد الصين الى جانبها وليس في الخندق الأمريكي، او حتى المحايد مثلما كان عليه الحال في السابق.
وهنا يمكنني القول إنه من الممكن أن يجلب الصراع الدموي الدائر في أوكرانيا موجة أخرى من المواجهة بين الغرب وروسيا وفي الأثناء تظل مسألة الهيمنة في أوروبا في وضع خطر على رقعة الشطرنج الجيوسياسية، ومن الممكن أن تنزلق أوكرانيا في الغضون إلى أتون حرب أهلية، فهذا سيكون بمثابة المصيبة لروسيا من عنف ولاجئين فارين على الحدود، كما أن مصير القاعدة الروسية البحرية الموجودة في شبه جزيرة القلمون بأوكرانيا لا يعرف أحد أين سيكون مصيرها مع تسمم العلاقات تماما بين روسيا والغرب، حيث رأى الكثيرون أن البلد مقبلة مرة أخرى على حرب باردة مع الغرب ولكن هذه المرة لن تكون تحت غطاء العباءة السوفيتية.
وأخيراً ربما أستطيع القول إن أوكرانيا دخلت سباقاً مع الزمن، حيث ستواجه مفترقات في أيامها المقبلة، وقد تواجه تحديات تلامس إحتمالات التقسيم المجتمعي، بين شرق أوكراني يمم وجهه شطر موسكو، وغرب أوكراني يستهويه الولاء للغرب، وإني على يقين بأن أوكرانيا ستكون عضواً في الإتحاد الاوروبي بالمستقبل القريب.
6/5/140228 علي عبد سلمان
https://telegram.me/buratha