باسل النيرب
حال الإعلام العربي لا يسر عدواً ولا صديق بعد أن برعت الفضائيات العربية في إيجاد أبعاد ضخمة جداً للرغبة العامّة في السذاجة عبر تقديم إعلام سطحي اصاب الجميع بالبلاهة التي تغلغلت حتى داخل أكثر المثقّفين نخبويّةً، وأصبح ظهور النخب على الشاشات لتمضية الوقت، في تراشق محموم اتهاماً وتجريحاً دون النقاش الحقيقي في القضايا، وبات التهريج الإعلامي في المضمون الفضائي العربي وسيلةً للتعبير تثير الاشمئزاز والسخرية لدى المتلقين.
في حالة الإعلام العربي الجميع يتحدث عن الحرية، ولكن الحرية الموؤدة التي انطلقت في الإعلام جاءت بعد سيطرة بعض الفاسدين على المال ونشرت بقصد التفاهة والتهريج الإعلاميّ في العالم العربي، لا بل عمد بعض القائمين على البرامج الإعلامية إلى استنساخ الأفكار الشريرة، فأحدهم يستمتع برواية تجاربه الجنسية دون خجل أو مواربة، والآخر يفتخر بمقدار البنات اللواتي عاشرهن قبل الزواج، وثالث يرى أن لا فائدة ترجى من الزواج طالما أنه يستطيع الحصول بالمال على ما يريد من الفتيات؛ والمرأة في نظره مجرد مصدر للحصول على اللذة والمتعة ولا فائدة منها غير ذلك!!
وأصبح المحتوى الجنسي سمة أساسية لأغلب البرامج العربية في أغلب البرامج، فتصعد عدسة المصوّر مدققة في تفاصيل المُقدمة الحسناء وتجتهد العدسة بإيصال صورة المرأة الجريئة الواثقة من أنوثتها التي تستخدم جسدها وتفاصيله في حديثها مع الرجال، وفي برنامج آخر تظهر وكأنها راقصة في نادي تعر ووقحة قليلة أدب عندما يسألها زوجها في برنامج عربي للأسف عن دورتها الشهرية، وتسأل أمها في اتصال هاتفي أمام الملأ، لماذا تأخرت دورتها الشهرية!!
برامج القمامة والخيانة
وعندما تكون المرأة العربية ضيفة في برنامج (لحظة الحقيقة) على سبيل المثال، وهو من أشهر برامج القمامة التلفزيونية، تنكشف الحقيقة؛ زواج فاشل، ونية مبيتة للخيانة، والأسئلة تتمحور حول مغازلة زميل في العمل، أو إقامة علاقة مع زميل أو دعوة زفاف من عشيق سابق أو تقرأ رسائل زوجها دون علمه، أو تتجسس على مديرها، والذي يؤلم النفس ويجرحها أن هذا النوع من التصرفات المفضوحة على الهواء؛ تبرر لنفسها فسادها الأخلاقي، وتسامح نفسها على سقوطها الأخلاقي بعد اعترافها أن إجاباتها على الأسئلة حررتها من أخطائها وأعطتها فرصة لمراجعة ذنوبها، معتبرة أن صراحتها وصدقها هو صك غفران تجزى عليه ولا تستحق العقاب!!
تحرير فلسطين باتصال هاتفي!
أما البرامج الحوارية مع الكُتاب والمفكرين فهي لا تحظى باهتمام خاص لدى القائمين على الفضائيات العربية، وإن بدا الحرص على وجود هذا النمط من البرامج الثقافية؛ إلا أن مجموع نسبتهم لا تتعدى 12 ‘ من إجمالي البرامج الفضائية العربية وجاءت من باب التنوع في العرض وتوسيع قاعدة المشاهدة، فُيكلف بها أي مقدم، وربما مدار الحديث موضوع ثقافي ويُطلب من الضيف رأي سياسي أو اجتماعي، أو يكون الضيف روائيًا ويطلب منه موقف ورأيا لتحليل الأزمة الاقتصادية وأسواق المال والأعمال!!
وفي اتصالات المشاهدين من حيث الشكل أو التعليقات والسلوكيات فهي جارحة للحياء وخارجة عن آداب الذوق العام، جمهور غاضب مفعم بالمشاعر يتمنى تحرير فلسطين، ويأمل بمحاربة الأمريكان، والغرب، ومشاركاً في كل ثورات الإصلاح والتغيير العربية، ولكن أكبر ثمن مستعد لدفعه في سبيل ذلك هو قيمة فاتورة اتصاله أو ارساله لمقطع مرئي مصوّر من هاتفه المحمول!!
المحرمات الدينية: الجريمة والجنس والمخدرات والدعارة
وتعمد الإعلام العربي إظهار المحرّمات الدينية التي أقرَّت الشرائع الدينية تحريمها وكأنها متأصلة في المجتمعات العربية، بل تعدى الأمر إلى إظهارها وكأنها نمط حياة لا يمكن الاستغناء عنه بعد أن أصبح موضوع الأفلام والمسلسلات يدور حول الحب والجريمة والجنس والمخدرات والدعارة والخيانة الزوجية، وحق البقاء للأقوى، وعلى الضعيف استخدام العنف والقتل والخداع والحيل لاسترداد حقه، ناهيك أن الخير ضعيف ومهزوم أمام الشر، وإن انتصر في بعض المواقف فإنه يدفع ثمن انتصاره غالياً.
أما المساهمة في تشويه وتزوير الأحداث والشخصيات التاريخية والإسلامية التي تُعرض درامياً في المسلسلات، فالحجة أن الحبكة الدرامية تحتاج مزيداً من الأحداث على القصة، فنجد أن شخصية هارون الرشيد – الخليفة الحاج الغازي- على سبيل المثال تُثَّبت في أذهان الجمهور على أنها الشخصية المحبّة للجواري والنساء والخمور والشهوات والملذات، وذلك بسبب طريقته.
قيم تقليد المنتصر اعلاميا
هذه هي الصورة العامة في محتوى الفضائيات العربية، فالمضمون العربي تقليد محض لأن القائم على الإنتاج يعتقد أن قيم وتقاليد المنتصر هي بالضرورة قيم متقدمة، وحتى نكون متقدمين ومتحضرين ينبغي أن نأخذ بهذه القيم ونقلدها.
هذا واقع المؤسسات الإعلامية العربية وإن لم تصرح به، فالأصل أن تعكس قيم وتقاليد المجتمع الذي تعبر عنه وتخاطبه، وتحترم هذه المؤسسات القيم في ممارساتها الإعلامية شكلاً ومضموناً، وحين يحدث العكس وهو واقع الحالي في الفضاء العربي لا بد أن هناك خللا ما أو سوء تقدير غير مقصود، أو سوء غرض مقصود، ولهذا فأغلب برامج الفضائيات العربية تبث ما يُخالف القيم، ويُفتقد إلى قيمتي العفة والشرف لتعوّد جمهورها على رؤية ما يخالف دينه وثقافته وإرثه التاريخي والحضاري، لذا فقد أدمن الجمهور مشاهدة المحتوى فارغ المضمون.
وللأسف السيطرة الرسمية على حالة الانفلات الأخلاقي في القنوات الفضائية مغيبة؛ فالجهات المنظمة على اختلاف مسؤولياتها يقع على عاتقها الدور الأكبر، فلا هي منعت ولا هي أقرت الأمر؛ وتركت الأمر للغول الفضائي ليلتهم المشاهدين، فالكثير من أصحاب الفضائيات العربية يعتقدون أن نشر ثقافة الإنحلال والعنف مفيد في إلهاء الجمهور عن رغباته الأساسية في الحرية والبناء الفكري، وهذا الأمر وإن كان يرضي الجمهور الشبق في مرحلة ما؛ إلا أن الخسائر على المدى البعيد هي التي ستعجل انهيار الدول الراعية للفساد الإعلامي.
فالفرق كبير ما بين الحرية والفوضى بين الكلمة المسؤولة والابتذال بكل مقاييسه، بين البرامج الهادفة التي تعمل على إثراء الفكر والسمو الروحي وبين البرامج السطحية التي تشجع على الرذيلة وتتحول إلى معول هدم، ولهذا نشط الاستنساخ البرامجي وهو ما يضع القائمين على العمل الإعلامي أمام تساؤلات مهمة في البعد الأخلاقي والمسؤولية الاجتماعية والحرية وضوابطها وسؤال عن أهداف ما أقوم به إعلامياً؛ فليس المطلوب تقييد حرية التعبير، أو أن تفرض الدُول رقابة صارمة تقيد الحريات الطبيعية؛ بل أن يتحلى القائمون على الوسائل الإعلامية بالمسؤولية الأخلاقية والاجتماعية.
إنتاج العرب الفضائي هو برامج مقلدة تكرِّس التهميش
ومع غياب المسؤولية والرقابة الأخلاقية فإن الواقع الحالي يؤكد أن إنتاج العرب الفضائي هو برامج مقلدة تكرِّس التهميش والإقصاء، وحلولنا للتصدي لا تتعدى دفن الرأس في الرمل هرباً من المواجهة، وعند وضع الخطط والحلول الجذرية والحقيقية نأخذ ما هو سطحي منها؛ ونغلق الجرح على عفنه فيتحول إلى صديد نتن الرائحة لا نجرؤ على إعادة العبث فيه مجدداً.
فمن حجم الفساد الإعلامي الحالي تبلدت المشاعر، وإبليس صاحب الشر والمكر يبكي علينا فلا هو قادر على مجاراتنا بسرعة، وحجم فسادنا الإعلامي ألجمه ومنعه حتى من بث سمومه فجلس مرتاحًا، لأن هناك من يقوم بالعمل عنه!!
ويُصدم المشاهد العربي حين يكتشف أن الكثير من الفضائيات العربية تقّدم الإثارة والعنف والمخدرات والجنس وكؤوس الخمر والرشوة والسرقة وحفلات الرقص والدعارة الجماعية، وإزاء ذلك يشعر بالعجز، ويعيش بدوامة لا متناهية يفقد على أثرها بوصلته الداخلية، ولا يعود قادراً على الإنتاج والإبداع والتقييم، فخيم التطرف في كل شيء، ففي الأخلاق والسياسية والفن موجة عارمة من الابتذال والإسفاف تهيمن على الساحة الإعلامية وتبث مواد أقرب إلى الإباحية.
إنّ ما نطلبه من الإعلام العربي بكل بساطة البعد عن الغرائز المنحطة، وتقديم نماذج لقيم النزاهة والأخلاق، لتكون جزءاً من ممارستنا اليومية لها، وليس رداء نرتديه كُلما تطلب الأمر، بل عُرف رئيس في حياتنا اليومية، والبعد عن ممارسة العنف الرمزي على الجمهور بسبب التلاعب بشهية المتعة واللذة، عن طريق ربطها بالاستهلاك، الأمر الذي يؤدي إلى فعل قمعي تجاه الفقراء ويُكرّس اغترابهم عن المتعة بمفهومها الحسي الإستهلاكي، وإشاعة الرغبة، وما ينتج عنها من غياب الاهتمام بالقضايا الإنسانية والوطنية.
‘ كاتب عربي متخصص في قضايا الإعلام
basilnerab@gmail.com
16/5/1403019
https://telegram.me/buratha