د. وفيق ابراهيم
تتوالى المؤشّرات التي ترمز إلى تصاعد عدوانية أميركية واسعة تكشف عن استعدادها لتدمير كل من يحاول مشاركتها في موقع المهيمن على العالم.
وبذلك يكون عهد الخطاب «الأوبامي» الأنيق قد ولّى، وذهبت معه محاولات إضفاء قيم أميركية مزعومة وسلام عالمي مزيف إلى التغطية على العدوانية الاقتصادية الأميركية. فلم يكد أوباما يعلنُ الانسحاب من أفغانستان، حتى عاد وجدّد لقواته عاماً جديداً، وخرج من العراق مشجعاً وبشكل غير مباشر على تدميره، واتضح أنه أعاد إلى بغداد الآلاف من قواته بصفة مستشارين.
الملاحظ أنّ أوباما تبنّى بسرعة نموذجاً سياسياً هجيناً يجمع بين السياسة الأميركية التاريخية وقتالية المحافظين الجدد الصهيونية. وفيما تعتمد المدرسة الأولى على نشر قواعد وأساطيل مع توكيل قوى محلية إدارة الصراعات المناطقية، لا يؤمن المحافظون إلا بالتدخل العسكري المباشر والطائرة العمياء من دون طيار.
ويظهر أسلوب أوباما الجديد، في أحداث أوكرانيا المفتعلة، والتحالف الدولي ضدّ الإرهاب، فالمصالحة الخليجية «المسرحية»، وإعادة تطويع تركيا، وأحداث هونغ كونغ، والملف النووي الإيراني، والعودة إلى العراق وأفغانستان، وزيادة ضخّ كميات النفط لخفض أسعاره، وإرسال عشرات آلاف الجنود الأميركيين إلى تركيا والأردن والسعودية لتدريب المعارضة السورية، بعض من مظاهر العدوانية الأميركية.
وبالنسبة إلى أوكرانيا، هناك سؤال مركزي: هل تقبل واشنطن بوجود نظام حكم معادٍ لها في المكسيك أو كندا يحالف روسيا؟
إنّ ما جرى في كييف هو استفزاز لروسيا لإنهاكها وإعاقة صعودها الدولي، وليس بهدف نشر الديموقراطية. كما أنّ خرافة التحالف الدولي مضحكة، بدليل أنّ «داعش» لا يزال يمتلك مصادر التمويل من النفط، بينما يأتيه التسليح والتذخير من حدود تركية مفتوحة، ولولا أنّ الجيشين السوري والعراقي يتصديان له ببسالة لأدرك التنظيم الإرهابي الخليج وشمال أفريقيا.
وهنا لا يجوز النظر ببراءة إلى ما حدث في هونغ كونغ، فهو نموذج بسيط لما يمكن أن يحدث في الصين اجتماعياً. ولا بدّ من الإشارة هنا، إلى أنّ رخص أسعار السلع الصينية عائد إلى رخص اليد العاملة إلى حدودٍ غير مقبولة، وإذا ما أرادت واشنطن، فإنّ بإمكان الإعلام الغربي أن يُطلق حملات «لإنقاذ عمال الصين» وذلك بالطبع، لخدمة الأمبراطورية الأميركية وليس الشعب الصيني. وينطبق الأمر على الهند التي ترتبط بعلاقات وثيقة مع الغرب، على الرغم من الفقر الهائل فيها، وهي تبدو كرهينة لا تستطيع التمرّد على القطبية الأميركية.
أما الأعجوبة الكاملة، فتكمن في قدرة واشنطن على تحويل العداء السعودي ـ القطري إلى تحالفٍ راسخٍ يجمع حوله الخليج والأردن، و قريباً مصر، على قاعدة إرسال «الإخوان المسلمين» إلى التقاعد المبكر والسعي إلى استرضاء تركيا وجذبها إلى التحالف العربي خدمة للقطب الأميركي، وهناك معلومات عن تحريض للبلوش والأكراد في إيران لتأليبهما على طهران بإعدادٍ وتحريضٍ من الاستخبارات الباكستانية والسعودية وجماعة البرازاني.
تريد واشنطن إفهام تركيا أنّ مصير المشاريع الخاصة للدول التي لا تصبّ في المصلحة الأميركية، غير قابلة للعيش، لذا أطلقت يدها في نفط كردستان وأجازت لها إقامة علاقات اقتصادية مع دول عربية وإسلامية إنما تحت السقف الأميركي. ويبدو أنها أبلغتها إصرارها على إسقاط النظام السوري، ولكن بطريقة لا تستفز روسيا ولا تؤدي إلى اندلاع حرب كبيرة مع إيران.
أما نتيجة مساعي أميركا التركية، فلم تصل إلى خواتيمها بعد، لكنها أدت إلى خفض سريع لأسعار النفط بسبب ضخّ كميات سعودية إضافية في الأسواق. فالعرب في خدمة القطب الأعظم، وليس في خدمة شعوبهم.
وهكذا يتبين مدى إصرار واشنطن على التجديد لقطبية أميركا من دون منازع أو منافس. هذه القطبية التي ورثتها عام 1945 من العجوز الإنكليزي المنهك، وكانت آنذاك قوة شابة وفتية. وكان عقلانياً أن يقتحم الاتحاد السوفياتي في أواخر الخمسينات نادي القوى العظمى لحيازته قوة عسكرية هائلة نافست واشنطن مع قوة اقتصادية مقبولة، وأيديولوجية كانت تصطاد من لا مكان له في السياسة الأميركية، أو كان على تنافر معها. وكان مقبولاً أيضاً، أن تلعب الصين دور الحصان الأسود في مرحلة السبعينات حتى مطلع التسعينات من القرن الفائت، بعد امتلاكها السلاح النووي وبدء مشروعها الاقتصادي. أما اليوم فتذهب التفاعلات العالمية نحو تأكيد قطبية متعدّدة تستند إلى ثلاثة مستويات اقتصادية، عسكرية وثقافية.
واشنطن لا تزال أولى لكنها لم تعد وحيدة، تنافسها الصين كقوة اقتصادية هائلة تمتلك إمكانات عسكرية وديموغرافية هائلة. وقد بدأت روسيا تستردّ مكانة الاتحاد السوفياتي، إنما على أساس قومي، وتكاد الهند تؤدي دوراً اقتصادياً عالمياً مع مكانة عسكرية لافتة.
ولا يمكن نسيان إيران البلد الواعد الذي تمكن من تأمين مواقع نفوذ له في الشرق الأوسط. لذلك تصرّ أميركا على إجهاض تطوّره بضربات اقتصادية استباقية، وإسقاط حليفه النظام السوري، ما يؤدي إلى قطع مناطق نفوذه وتدميرها، فهي تعرقل إيران وتهدّد الصين طبقياً وتثير قلق روسيا، في لعبة تجمع بين الحلول العسكرية والاقتصادية وألعاب الاستخبارات في آن. ولا تستثني الهند التي تثير ريبتها، فتعمل على ضبطها من خلال علاقتها بالغرب.
نقلاً عن موقع جريدة البينة
11/5/141129
https://telegram.me/buratha