في تسعينات القرن الماضي، وبسبب التدهور الاقتصادي الذي عانى المجتمع العراقي منه ومن ويلات الحصار الاقتصادي واثره وما تلاه من نكبات وصعوبات كانت ختامها المرحلة التي انهارت فيها الدولة العراقية اثر الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003، استشرت ظاهرة تزوير الشهادات الدراسية بمختلف أنواعها - إعدادي، ماجستير، دكتوراه - واشتهرت أماكن عدة تقدم لزبائنها خدمات مماثلة - كسوق مريدي - وباتت متخصصة في تقديم المساعدة لمن هم بحاجة لتزوير مستمسكاتهم ووثائقهم الرسمية - بما فيها الشهادة - التي حملها الكثيرون وسافروا بواسطتها إلى بلدان العالم المختلفة باحثين عن عمل ومال ، شحت يد الوطن عن تقديمهكما انها كانت تمثل ورقة اليانصيب التي ربحها الكثيرون بعد 2003 ممن كانوا على خبرة كافية ودراية بآليات التزوير مستغلين الفوضى العارمة التي اجتاحت البلاد إبان سقوط نظام الحكم في العراق وذلك لضمان الحصول على التعيين في الدولة والقبول في الجامعات وغيرها من المعاملات، حيث ان كل أختام الدوائر تقريبا كانت موجودة في أماكن مشابهة لسوق مريدي ومايقدمه من خدمات للفئات " المزورة " المستفيدة، ويمكن الحصول على أية أوراق ثبوتية مثل سنوية السيارة وعقود البيع والشراء والجنسية وملحقاتها وبطاقة السكن والتموينية الخ من هناك وبسهولة .
كل ذلك كان له الأثر الأكبر على سمعة شهادات الجامعات العراقية المشهود لها سابقاً بالرصانة الأكاديمية.
وقد أظهرت احصائية سابقة لمنظمة التعليم العالمي، وهي منظمة دولية لها مقر في بغداد ، نسب تزوير الشهادات في محافظات العراق خلال عامي 2007 - 2008، احتلت فيها محافظة البصرة المركز الاول بواقع تزوير نسبته 19% تلتها العاصمة بغداد بفارق نصف درجة. وكانت اقل المحافظات نسبة هي محافظة المثنى الواقعة جنوب غربي العراق التي بلغت نسبتها 2% . في حين لم يشمل التقرير المحافظات الثلاث في إقليم كردستان العراق، وهي أربيل ودهوك والسليمانية الواقعة في شمالي البلاد.
وقد كانت للجامعة المستنصرية الحصة الأكبر من التزوير في الفترة بين عامي 2006-2008 بواقع 228 شهادة مزورة وذلك بحسب تصريح لوزير التعليم العالي والبحث العلمي السابق
خطورة الموضوع تكمن في ان دور التلاعب بالوثائق والشهادات الدراسية لا يقتصر على الأفراد الذين حاولوا استخدام هذه الشهادة كوسيلة و"باب رزق" شهري فحسب، بل تكمن كذلك في ان اغلب هؤلاء قد وصلوا بفضلها الى مراتب سيادية مرموقة في البلد تمكنهم من إدارة شؤون البلد او التحكم بمراكز صنع القرار كذلك ، وقد أثير الكثير من الجدل بعد الاتهامات التي واجهها بعض أعضاء مجالس المحافظات وبعض الحاصلين على مناصب حكومية بأنهم متورطون بتنظيم شهادات مزورة لغرض البقاء في مناصبهم والحصول على امتيازات هذه المناصب.
علاج مؤقت
في وقت سابق أصدرت الأمانة العامة لمجلس الوزراء قرارا بتشكيل لجنة لتدقيق الشهادات الدراسية برئاسة رئيس ديوان الرقابة المالية وعضوية ممثلين عن هيئة النزاهة العامة والمفتش العام لوزارتي الخارجية و وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، تتولى اتخاذ الإجراءات اللازمة والمتاحة لكي تقوم الجامعات والمعاهد العراقية بنشر أسماء خريجيها على مواقعها الالكترونية ابتداء من العام 1990 فصاعدا وبموجب ضوابط تعدها وزارة التعليم العالي والبحث العلمي بالتعاون مع دائرة المفتش العام فيها للتثبت من صحة صدور الشهادات الدراسية عنه
آلية الكشف عن الوثيقة الصادرة من الجامعات والمعاهد العراقية بحسب المصادر تكمن في إرسال كتاب رسمي من مكتب المفتش العام في الوزارة الى الجامعة التي تخرج منها الموظف الحكومي ويتم فيه الاستفسار عن الوثيقة طبقا للرقم والتأريخ المدون عليها، وعن ذلك تحدث النائب السابق والقاضي وائل عبد اللطيف حيث بين في معرض سؤاله عن مدى جدوى الآليات المتبعة في محاسبة ذوي الشهادات المزورة بقوله " كل الاجراءات المتبعة لمحاسبة المخالفين والمزورين لأوراقهم او شهاداتهم الدراسية ليست سوى اجراءات تتم في اطار إعلامي فقط، ولم تأخذ شكلاً قانونياً او قضائياً ، فالتزوير جريمة مخلة بالشرف، ويفترض ان تكون مدة العقوبة التي يقضيها صاحب العلاقة للتكفير عن فعلته لا تقل عن خمس عشرة سنة ، لكن الواقع في العراق يعكس شيئاً مختلفاً تماماً عما ذكرت ".
وجه الاختلاف
تختلف الشهادات المزورة عن الحقيقية بكونها تحمل تاريخ صدور ورقما وهميا غير مدون في سجلات الجامعة، والشيء الوحيد الحقيقي في تلك الشهادات هو الختم الذي تحمله.
وطبقاً لتصريحات بعض المهتمين فإن هذه الآلية غالبا ما تكشف مثل التلاعب والتزوير، إلا أنها تتأخر لشهور عدة بسبب الإجراءات الروتينية، اما المعضلة الحقيقية فتكمن في الشهادات الصادرة من خارج البلاد، حيث ان التحقق من صحتها يبدو امراَ شبه مستحيل .,ومما تجدر الإشارة اليه فان وزارة التعليم العالي ومن على موقعها في شبكة الانترنت ذكرت أسماء الجامعات العالمية المعترف بشهاداتها داخل العراق وأوردتها بشيء من التفصيل ، لكن هل هذا يكفي ؟!.
لجنة النزاهة وهي المعنية بالتحقيق في موضوع الوثائق المزورة، أكدت على ضرورة أن يتم اتخاذ الإجراءات اللازمة بحق المزورين وفقا للقانون العراقي الذي يقضي بإحالة من يقوم بتزوير أية أوراق رسمية الى القضاء وفصله من وظيفته، وهذا ما أكده د. طلال الزوبعي رئيس لجنة النزاهة البرلمانية حيث قال " اليوم علينا ان نعمل حثيثا من اجل القيام بثورة على الفساد الذي وصل الى اقدس مفاصل الدولة، واعني العلم والشهادات الدراسية ."
وأضاف "هناك كم هائل من الشهادات والاختصاصات العلمية التي يحمل منها أصحابها القشور فقط، بمعنى ان لديه شهاده لكن دون اختصاص ، وهؤلاء مزورون مع وقف التنفيذ ، فما بالك لو كانت تلك الشهادات تختص بمواقع حساسة ومهمة في الدولة ؟ كالأطباء والمهندسين والكثير من المهن التي لها علاقة وثيقة بحياة الفرد والمواطن العراقي ."
وأضاف "طرق الاحتيال تنوعت واختلفت لدرجة بات فيها الكشف عنها يبدو شبه مستحيل، وبرأيي فأن تعاقب السياسات الخاطئة للتعامل مع ملف مشابه هو من فتح باب التزوير لضعاف النفوس على مصراعيه من خلال ممارسات مختلفة ، كقضية المفصولين السياسيين او تزكية الأحزاب و و و غيرها الكثير ."
واختتم حديثه بالقول " نحتاج الى 100 سنه ربما لنتمكن من إصلاح الأوضاع الحالية في هذا المجال ."
سوق للتزوير
تاريخ السوق (سوق مريدي) يعود إلى أكثر من أربعين عاما مرت وتحديدا في عام 1972حيث جاء رجل – بحسب الروايات - من جنوب العراق اسمه الحاج مريدي وفتح كشكا في المنطقة وذلك بعد تأسيس مدينة الثورة بعشر سنوات.
دكان الحاج مريدي كان نواة لتأسيس وإنشاء سوق ذاع صيته لاحقا ويعود تاريخ مدينة الثورة (مدينة الصدر حاليا) إلى مطلع ستينات القرن الماضي عندما قرر رئيس الوزراء العراقي الراحل عبد الكريم قاسم إسكان العائلات النازحة من مدن الجنوب في إحدى حافات بغداد وتمليكهم أراضي بمساحات محددة لم تتجاوز الـ 150 متراً مربعاً .
السوق كان ولا يزال يضم عشرات المزورين الـ "profisional"(المحترفين) الذين يغيرون الأختام طبقا لما يحدث في الدوائر الرسمية وذلك بالتعاون مع موظفين من داخل الدوائر الحكومية حيث بالمقابل يحصل الموظف المتواطئ على مبالغ مجزية .
شهادات عن بعد
جامعات ومعاهد، وتحت عناوين عريضة ومسميات مغرية تدفع بالأشخاص قليلي الخبرة للمجازفة بحثاً عن شهادة قد تسهم في تغيير أحوالهم المعيشية او تضمن لهم بحسب اعتقادهم وظيفة مستقبلية، جامعات مختلفة يتم تسجيلها في البلدان التي تحتضنها مقابل مبالغ ضئيلة جدا- لان اغلبها يدعي انها مؤسسات غير ربحية- .
تقوم الجامعات تلك بعمل صفحات على مواقع التواصل او على الويب وتجتذب ضحاياها من خلال عناوين لامعة وصور لمنجزات وهمية هدفها الأول والأخير الوصول الى جيب الضحية الذي غلبته سذاجته.
س.ع يعمل كسمسار ووسيط يقوم بمهمة التنسيق بين جامعة (ل.ا) والمعروفة بكونها مسجلة في احدى الدول الأوروبية على أنها مؤسسة غير ربحية، وقد وزعت الجامعة المذكورة بين عامي 2007 و2010 شهادات مزورة فاق عددها 100 شهادة بدرجة بكالوريوس وماجستير وشهادات تصل إلى الدكتوراه باختصاصات متعددة : علوم إنسانية، لغات، اقتصاد، محاسبة، إدارة الأعمال، الفنون الجميلة، وطب بشري وهندسة معماري و بترول مقابل رسوم دراسية طبعاً، حيث تحدث س.ع عن ذلك بقوله" اعمل في مجال الوساطة "الدراسية"، منذ عام 2009 ، وقد تركت العمل مع هذه الجامعة منذ سنة تقريباً بسبب الضغوطات، كنا ببساطة" نبيع" الشهادات، فشهادة الاعدادية يمكن استحصالها بـ6000$ بينما الدكتوراه والماجستير قد يصل سعر بيعها الى 25000$ "
واضاف : " احد النواب البرلمانيين واحد الوزراء مع ابنه حصلوا جميعاً على شهادات من جامعتنا وهم يعون تماماً ان العملية كانت بمثابة صفقة بيع وشراء لا أكثر "
واردف : "مناقشة الأطاريح تتم بطريقة درامية، حيث يرتدي الطالب زي التخرج ونقوم بترتيب تصوير فيديوي بدون صوت في قاعة أعدت سلفاً لهذا الغرض، هذا في حالة كون الطالب يعي حقيقة الموضوع وطبيعة الشهادة التي سيحصل عليها، اما اذا كان يجهل بتفاصيل الموضوع فالموضوع سيتم بشكل تدريجي ، حيث يكون الطالب في البداية تحت إشراف أستاذ يفترض أن يكون من ذوي المؤهلات ويتم تزويد الطالب بالحقيبة الدراسية اما ورقية أو على شكل رقمي، وفي نهاية المطاف يحصل الطالب على شهادة بدون جهد كبير ورسوم معتدلة نوعاً ما مقارنة بالتعليم المعترف به دولياً وهو لا يعرف حقيقة ان أمواله وجهده ضاعا هواء في شبك "
وبين بنبرة متهكمة " مقر هذه الجامعة ليس سوى غرفة في شقة في برج سكني تحتوي على حاسوب ورقم هاتف كذلك تحتوي على كمية كبيرة من الشهادات الجامعية وبدرجات مختلفة. بالإضافة الى طابعات وصور مجسمة وملصقات بهدف صنع الشهادات، ولكن من يطلع على موقع الجامعة مثلاً سيقرأ أن مكاتب هذه الجامعة تمثل البرج السكني كاملا المؤلف من طوابق تتعدى العشرة !"
واردف :"هنالك الكثير من الطلاب الذين يقومون بالتسجيل عندما يرون على موقع جامعة معينة أن وزارة خارجية البلد الذي يضمها تصادق على الشهادة ، وهنا تكمن الخديعة لأن وزارة الخارجية إنما تصادق على توقيع غرفة التجارة التي سجلت فيها الجامعة كمؤسسة ليس إلا ، وسيكتشف الطلبة ذلك لكن بعد فوات الأوان.
واختتم بقوله : " مجلس إدارة الجامعة مثُل قبل سنتين تقريباً أمام القضاء هناك في البلد المضيف بتهمة تزوير الشهادات بعد اكتشافها كجامعة "وهمية" توزع شهادات جامعية مزورة مقابل مبالغ مالية إلا أن محامي الجامعة ظل مصراً على أن توزيع شهادات غير معترف بها ليست جريمة "
ملف الشهادات المزورة ملف شائك وهو بحاجة للكثير من التفاصيل والخوض في دهاليز البحث عن الاسباب والمسببات، تلك التي تدفع بالبعض لخوض تجربة مماثلة ، حيث التخبط بين "مريدي" وشوارع اوروبا الباردة لغرض الوصول لغاية لا تبررها وسيلتها مطلقاً !
وبغض النظر عن أن الجامعات المماثلة تتسبب بإلحاق أضرار بثقة الجمهور بالشهادات التي تقدمها الجامعات في البلد المضيف لها، الا ان أضرارها الأهم ستنعكس مستقبلاً وبصورة مباشرة عبر أولئك الذين سيتدرجون لاحقاً في وظائف مهمة في بلدانهم وتحت مسميات مختلفة ، فهم حاصلون على شهادات علمية "مهمة "تؤهلهم - بحسب رأيهم - لذلك .