التقارير

أفول القوة الأمريكية من «مدرج» الشرق الأوسط؟

1236 08:42:37 2015-02-04

أغلب القوى الكبرى التی سلكت مسار الأفول اعتمدت سیاقاً مشابهاً، وجهدت للتكیف مع التحولات فی بنیة القوة سواء الإقلیمیة أو الدولیة، من خلال «استراتیجیة التقشف والانكماش» التی تتجسد عبر خفض الإنفاق العسكری، إصلاح داخلی، فرز المصالح ضمن أولویات والتركیز على الجوهری منها فقط، مبادرات دبلوماسیة نحو الخصوم، والبحث عن تحالفات جدیدة وتمتین القدیم منها.

لقد ألحق انكفاء القوة الأمیركیة فی الشرق الأوسط ضرراً بالغاً فی صدقیة واشنطن مع حلفائها، قلص دائرة المصالح المتبادلة فی ما بینهم، وفرض على الحلفاء تحمل أعباء إدارة أمنهم القومی، أی أنّ «شقوق» التفسخ فی الحلف الأمیركی تبدو واضحة للعیان. تتمظهر معالم هذا الوهن فی ثنائیة السعودیة ــ إسرائیل/ تركیا ــ قطر، سواء فی ملفات مصر، سوریا، العراق، والتسویة النوویة الإیرانیة.

وضمور الصدقیة یثیر حساسیات بالغة عند القوى الهابطة بالتحدید، لأنه یُعریها من الحلفاء ویشجع «المفترسین» المتربصین بها فی لحظة انكشافها. هذه الحساسیة انعكست على المواقف الأمیركیة الداعیة لتوجیه ضربة لسوریا، على خلفیة مزاعم استخدام النظام للسلاح الكیمیائی، من باب حفظ صدقیة واشنطن بعد تجاوز النظام «للخط الأحمر»، وهو ما دعا أحد الباحثین الأمیركیین للقول: ذهابنا نحو الضربة العسكریة فی سوریا من باب حفظ الصدقیة، رغم مخاطرها الكارثیة، یشبه حال من یقوم بالانتحار لإثبات أنه لم یكن میتاً.

تظهر أزمة الصدقیة بأبرز تجلیاتها فی التوتر الأمیركی ــ السعودی، فمِن بین حلفاء واشنطن فی المنطقة تبدو السعودیة الأسوأ حالاً: جیش ضعیف، اقتصاد ریعی مشوه، علاقة متوترة بإطراد بین المجتمع والدولة، نموذج منفر (وفی عصر المعلومات والإنترنت هذا قصور لا یمكن التغاضی عنه أبداً)، شرعیة متناقصة، عصبیة متراخیة، اهتزاز سلطوی، بالتوازی مع عدائیة مفرطة وتحالفات هشة فی الإقلیم.

قرأ السعودیون تحولات القوة خلال السنوات الماضیة بشكل مقلق لا سیما ما جرى فی العراق، وبدأ التوجس السعودی یظهر من الافتراق المتزاید مع الأمیركیین بشأن المصالح الإقلیمیة، أهمیة الشرق الأوسط، الأولویات، وآلیات الإدارة الجدیدة للمنطقة. من الطبیعی أن یكون السعودی أكثر قلقاً تجاه التوازن الاقلیمی المستجد لأنه «الدشمة الأمیركیة» الأولى على خط النار، فیما الخیارات الأمیركیة أكثر تنوعاً وهواجسها أقل حدةً.

لذلك كله، یخوض السعودیون المواجهة السوریة على قاعدة «لعبة صفریة»، إما كل شیء أو لا شیء، فكسب سوریا كان یمكن أن یعوض خسارة العراق، بالنسبة لهم. إذاً، السعودیة حافزها الخوف ولیس الطموح، والخوف الهستیری یخلُق المجانین. بالمقابل رضخ الأمیركی للخط الأحمر الممهور بجملة «لسوریا حلفاء لن یسمحوا لها بأن تسقط»، ووجد البدیل فی «نزع مخالب» النظام السوری أی «قوته الإستراتیجیة» على مثال السلاح الكیمیائی، بعدما أصابت الحرب مقتلاً فی المجتمع والجیش والنظام السوری بحیث أصبحت مساهمة سوریا فی القوة النسبیة لمحور المقاومة متدنیة، ولو على المدى المنظور.

ما الحل بالنسبة للسعودیة؟ الحل «العقلانی» یكون بدایة بتبنی مقاربة أكثر براغماتیة مع الإیرانیین، مقاربة تحكمها جملة مصالح قابلة للتسویة والتقاسم، التراجع خطوات للخلف لاستكشاف مساحة ممكنة لتبرید العلاقات، یمكن للسعودیین التعلم كثیراً من الأتراك والقطریین. لكن عقبات عدة تحول دون هذا التحول، أولاً ذهنیة القرار السعودی لیست «عقلانیة» ومحكومة للغرائز والانفعالات، وثانیاً لأنّ الصدام مع إیران یستخدم كأداة تعبئة داخلیة بدیلة عن الإصلاح، وثالثاً كأداة توتیر إقلیمیة لتدعیم جدار الكراهیة عند شاطئ الخلیج، ورابعاً كوسیلة إغراء للدعم الغربی.

لذلك یُفضّل السعودیون حتى اللحظة بدائل أخرى: رفع مستوى المواجهة بما قد یؤدی إلى ردود فعل تطیح التبرید الحالی بین إیران والغرب، تمتین التحالفات الإقلیمیة للمملكة مع مصر والیمن ودول مجلس التعاون، فتح مسار متقدم للتنسیق مع الإسرائیلیین، تأجیج التوترات وإضعاف الحكومات المركزیة فی نقاط الاشتباك فی العراق ولبنان، محاولة إغراء الفرنسیین من خلال صفقات التسلح، للتأثیر بشكل أحادی وعبر الاتحاد الأوروبی لإشغال جزء من الفراغ الذی خلَّفه الأمیركیون فی الشرق الأوسط، والاستمرار فی عرقلة التسویة السوریة وإطالة أمد الحرب فیها. هذا كله سیعزز المراهنة على عمق العداء الأمیركی ــ الإیرانی الذی قد یؤدی إلى انتكاسة فی التبرید القائم، باعتباه أمراً ظرفیاً.

الأرجح أنه فی النهایة سیلتقی السعودیون والأمیركیون عند تقاطع ما، فالمصالح المشتركة بین النظام السعودی والإدارة الأمیركیة متداخلة ومعقدة ومتبادلة. ستبقى السعودیة من مرتكزات الإستراتیجیة الأمیركیة فی الشرق الأوسط وإن تراجعت أهمیتها، وفی المقابل تبقى واشنطن ضماناً أمنیاً جوهریاً للنظام السعودی الذی یفتقد لبدائل أخرى بهذا المستوى. المحدد الأساسی فی طبیعة «التكیف» السعودی مع كل هذه التحولات، هو التغییر المرتقب فی رأس سلطة القرار السعودی وما سیفرزه من توزیع قوى جدید داخل الأسرة الحاكمة، وهنا أیضاً لواشنطن أوراق كثیرة.

تبدو الولایات المتحدة كطائرة كبیرة فی حالة هبوط اضطراری، والحل یكمن بتخفیف السرعة لضمان «هبوط رشیق» بدل السقوط الحاد. وبالتوازی لیس هناك من مصلحة للقوى الدولیة الكبرى المنافِسة بتدهور حاد لواشنطن خوفاً من فراغ مفاجئ فی النظام الدولی وثانیاً بسبب ما یعرف بـ«الاعتماد المتبادل المعقد» لا سیما اقتصادیاً بین هذه القوى. شرق أوسطیاً، للولایات المتحدة مصلحة بمنع فوضى شاملة، فكان لا بد من الإقرار للروسی بدور فاعل ووازن فی الإقلیم خاصة من ناحیة قدرته على «عقلنة» محور المقاومة أو العمل كقناة اتصال معه.

ومن مستلزمات تجهیز «المدرج الشرق أوسطی» لأفول هادئ «للقوة الأمیركیة»، الإقرار بنفوذ ودور ومصالح إیران باعتبارها قوة إقلیمیة یجب التعامل معها، ولو مؤقتاً بالحد الأدنى. فی المقابل تلقف الإیرانیون اللحظة، تثبیت وضعیتی القوة الإقلیمیة والقوة النوویة فی مقابل تقدیمهم تنازلات أوجدوها بالأصل، فی أغلبها، كثمن لتسویة مستقبلیة. بالمحصلة، الأمیركیون یتقنون الخسارة أیضاً.

22/5/150204

اشترك في قناة وكالة انباء براثا على التلجرام
https://telegram.me/buratha
اضف تعليقك
الاسم والنص والتحقق من الروبوت ضروري
الاسعار الرسمية للعملات مقابل الدينار
دينار بحريني 0
يورو 0
الجنيه المصري 0
تومان ايراني 0
دينار اردني 0
دينار كويتي 0
ليرة لبنانية 0
ريال عماني 0
ريال قطري 0
ريال سعودي 0
ليرة سورية 0
دولار امريكي 0
ريال يمني 0
التعليقات
محمود الراشدي : نبارك لكم هذا العمل الجبار اللذي طال إنتظاره بتنظيف قلب بغداد منطقة البتاويين وشارع السعدون من عصابات ...
الموضوع :
باشراف الوزير ولأول مرة منذ 2003.. اعلان النتائج الاولية لـ"صولة البتاوين" بعد انطلاقها فجرًا
الانسان : لانه الوزارة ملك ابوه، لو حكومة بيها خير كان طردوه ، لكن الحكومة ما تحب تزعل الاكراد ...
الموضوع :
رغم الأحداث الدبلوماسية الكبيرة في العراق.. وزير الخارجية متخلف عن أداء مهامه منذ وفاة زوجته
عمر بلقاضي : يا عيب يا عيبُ من ملكٍ أضحى بلا شَرَفٍ قد أسلمَ القدسَ للصُّ،هيونِ وانبَطَحا بل قامَ يَدفعُ ...
الموضوع :
قصيدة حلَّ الأجل بمناسبة وفاة القرضاوي
ابراهيم الجليحاوي : لعن الله ارهابي داعش وكل من ساندهم ووقف معهم رحم الله شهدائنا الابرار ...
الموضوع :
مشعان الجبوري يكشف عن اسماء مرتكبي مجزرة قاعدة سبايكر بينهم ابن سبعاوي
مصطفى الهادي : كان يا ماكان في قديم العصر والزمان ، وسالف الدهر والأوان، عندما نخرج لزيارة الإمام الحسين عليه ...
الموضوع :
النائب مصطفى سند يكشف عن التعاقد مع شركة امريكية ادعت انها تعمل في مجال النفط والغاز واتضح تعمل في مجال التسليح ولها تعاون مع اسرائيل
ابو صادق : واخیرا طلع راس الجامعه العربيه امبارك للجميع اذا بقت على الجامعه العربيه هواى راح تتحرر غلسطين ...
الموضوع :
أول تعليق للجامعة العربية على قرار وقف إطلاق النار في غزة
ابو صادق : سلام عليكم بلله عليكم خبروني عن منظمة الجامعه العربيه أهي غافله ام نائمه ام ميته لم نكن ...
الموضوع :
استشهاد 3 صحفيين بقصف إسرائيلى على غزة ليرتفع العدد الى 136 صحفيا منذ بدء الحرب
ابو حسنين : في الدول المتقدمه الغربيه الاباحيه والحريه الجنسيه معروفه للجميع لاكن هنالك قانون شديد بحق المتحرش والمعتدي الجنسي ...
الموضوع :
وزير التعليم يعزل عميد كلية الحاسوب جامعة البصرة من الوظيفة
حسن الخفاجي : الحفيد يقول للجد سر على درب الحسين عليه السلام ممهداً للظهور الشريف وانا سأكمل المسير على نفس ...
الموضوع :
صورة لاسد المقاومة الاسلامية سماحة السيد حسن نصر الله مع حفيده الرضيع تثير مواقع التواصل
عادل العنبكي : رضوان الله تعالى على روح عزيز العراق سماحة حجة الإسلام والمسلمين العلامة المجاهد عبد العزيز الحكيم قدس ...
الموضوع :
بالصور ... احياء الذكرى الخامسة عشرة لرحيل عزيز العراق
فيسبوك