محمود ريا
بعد مرور أكثر من خمسة وثلاثين عاماً على انطلاقتها، أين أصبحت الثورة الإسلامية في إيران، ماذا حققت، وإلى أين تسير؟
إن أسئلة بهذا الحجم تتطلب استعراض المسار الذي اختطته هذه الثورة منذ انطلاقتها النهائية عام 1978، وحتى انتصارها المؤزر عام 1979.
والقصد بـ "الانطلاقة النهائية" هو تلك الفترة التي تصاعدت فيها الأحداث منذ انطلاق التظاهرات الشعبية الحاشدة، وصولاً إلى عودة الإمام الخميني (قده) في أوائل شباط/ فبراير عام 1979، وإعلان الانتصار في الحادي عشر من الشهر نفسه. أما الثورة بكامل مسارها فهي أقدم من ذلك بكثير، حيث كانت انطلاقتها الأولى في العام 1963، حين نهض ذلك الرجل الرباني بمهمة إيقاظ الأمة الإسلامية، ابتداءً بالشعب الإيراني، ودفع ثمن تلك النهضة الكثير من العذاب والتشريد وحتى الأذى الذي تلقاه من أعتى قوة إمبراطورية شهدتها المنطقة، أي شاه إيران، الذي عوّد القوى الموجودة في ذلك الوقت على تسميته بـ "ملك الملوك".
لم يمرّ يوم دون أن تعاني هذه الثورة، ابتداءً من أعداء الداخل الذين كانوا يبذلون كل جهودهم لإفشالها، إلى الأعداء المستجدين من الانتهازيين الذين حاولوا مصادرة الثورة وحرفها عن مسارها، مستخدمين التفجيرات وعمليات اغتيال قادة الثورة ومنظّريها، وصولاً إلى أعداء الخارج، وعلى رأسهم الولايات المتحدة، التي تلقّت ضربة قاصمة بالانتصار الذي حققه الشعب الإيراني على "وكيل الإدارات الأميركية" في منطقة الخليج.
ويبقى العدو الأكثر مرارة لهذه الثورة هو "إسرائيل"، الكيان الذي تراءى لقادته شبح انهيار حلمهم التلمودي مع قيام حراك إسلامي يضع القدس نصب عينيه، ولا يحيد عن هذا الهدف، مهما تكاثرت المشتّتات وتضافرت الجهود لحرف الزحف عن مساره وإلهائه بمعارك جانبية وعقبات عسكرية وسياسية واقتصادية، وحتى اجتماعية وثقافية.
لقد كان تحرير فلسطين، واستعادة القدس، وإزالة الرجس الصهيوني عن الأقصى هو الهمّ الأكبر لمفجّر الثورة الإسلامية، ومن أجل ذلك كان من أولى الخطوات التي قام بها بعد انتصار ثورته المباركة هو إعلان يوم القدس العالمي، مع ما يحمله هذا الإعلان من رمزية ومن تعبير عن الإصرار على تعبئة طاقات الأمة كلها باتجاه هذا الهدف الكبير.
ومع اندفاع الثورة في معالجة القضايا المصيرية التي اعترضتها، لم يكن موضوع القدس وفلسطين ليغيب عن ذهن قادتها، سواء خلال فترة وجود الإمام الخميني على رأس القيادة أو بعد ارتحاله للملكوت الأعلى، واستلام الإمام السيد علي الخامنئي زمام الأمور.
فلا الحرب التي فرضها النظام الصدّامي في العراق على إيران على مدى ثماني سنوات، ولا الحصار الاقتصادي الخانق الذي فرضته الولايات المتحدة وحلفاؤها في المنطقة والعالم على الجمهورية الإسلامية، ولا القلاقل والاضطرابات التي حاول الأعداء إثارتها في الداخل الإيراني، دفعت القيادة على مدى العقود الماضية إلى التنازل عن الحلم الكبير، حلم تحرير فلسطين وإنقاذ الأقصى.
لقد فشلت كل الاستراتيجيات والسياسات التي اعتمدتها القوى المعادية في جعل الثورة الإسلامية تنسى فلسطين، فلا التهديد والوعيد نفع، ولا التلويح بمكاسب إقليمية وأدوار دولية أثمر، ولا الإيحاء بإمكانية التغاضي عن البرنامج النووي الإيراني دفع القيادة الإيرانية إلى اتخاذ طريق مختلف عن الطريق الذي التزمت به الثورة منذ انطلاقتها.
إن ما نشهده اليوم من تطورات على مستوى المنطقة ينطلق ـ في كثير من عناوينه ـ من هذا القرار الإيراني في العمل من أجل جعل موضوع تحرير فلسطين خياراً قابلاً للتحقق والإنجاز في مرحلة ما، وعدم وضع الشعوب العربية والإسلامية أمام أمر واقع اسمه بقاء "إسرائيل" في المنطقة إلى الأبد. وهنا بالضبط تكمن كل هذه الهجمة الأميركية الإسرائيلية الأوروبية " العربية" على إيران، وعلى الدول الحليفة لها، وعلى القوى الشعبية والجهادية التي تحمل فكر المقاومة الثابتة والراسخة للكيان الصهيوني ولجرائمه، ولوجوده من أساسه.
إن الصراع الذي تشهده منطقتنا كامن في هذه النقطة بالذات، ولا يمكن أن ينتهي إلا بنتيجة حاسمة، بين نجاح مشروع القوى الغربية في فرض بقاء الكيان الصهيوني على أرض فلسطين وتمدده بكل الاتجاهات، وبين نجاح المشروع المقاوم في اقتلاع هذا الكيان الغاصب، مع ما يشكله هذا الكيان من رافعة للمشاريع الغربية الهادفة إلى تفتيت أمتنا والهيمنة عليها والقضاء على أي إمكانية للنهوض في المستقبل.
وانطلاقاً من هذه القاعدة يمكن تقدير مدى نجاح أو فشل الثورة الإسلامية في تحقيق ما عملت لأجله على مدى عقود.
إن ما نشهده اليوم من انتصارات لمحور المقاومة، في إيران وفي لبنان وفي فلسطين وفي سوريا والعراق وغيرها، ومن إحباط للمؤامرات الغربية الصهيونية التي تستهدف أمتنا، هو دليل على تقدم الثورة الإسلامية في طريق إنجاز المهمة التي تعهدت القيام بها.
ويبقى الأمل في تحقيق الانتصار النهائي، وهو أمل تعمل من أجل تحقيقه أجيال تربّت على أفكار الثورة الإسلامية وتغذّت من مبادئها واقتنعت بأحقية الأهداف التي وضعتها على رأس قائمة أولوياتها.
30/5/150212
https://telegram.me/buratha