قيس المهندس
ما إن يحصل حدث ما في المنطقة، حتى تنهمر التحليلات من كل حدب وصوب، وتطرح لنا مخيلات المحللين ما تجود به من علل وأسباب ومسببات للحدث، وبقطع النظر عن مصادر تلك التحليلات، فأن الأعم الأغلب منها يفتقر الى العلمية والموضوعية.
نحن لسنا في معرض المديح لتحليلنا، ولكن ثمة رؤية علمية موضوعية ومنطقية في الوقت ذاته، ومتجردة عن الميول والتأثر بالخلفيات الثقافية والسياسية والحضارية، وبعيدة عن تلك التحليلات التي يكون الجهل مُنشئ أسسها ومشيّد أركانها، كما في بعض تحليلات الفيسبوك وأمثالها.
في الحقيقة وبعيداً عن آفة فكرية أخرى وهي نظرية المؤامرة، فإن أي حدث يحصل في المنطقة التي تمثل اليوم حلبة الصراع بين القوى العظمى، النازعة الى فرض قواها وتحقيق مصالحها، فإن ذلك الحدث لا بد أن ينسب الى أحد أطراف الصراع، الا أن يكون عملاً متهوراً من قبل دولة إقليمية حليفة لأحد أطراف الصراع الدولي، وسمة ذلك الحدث إنه يؤدي الى رجحان كفة الطرف الآخر.
حدث اسقاط طائرة سو24 الروسية من قبل الأتراك، عد عملاً متهوراً من قبل حليف إقليمي للغرب، ولكنه في الوقت ذاته كان عملاً عدوانياً موجهاً بصورة مباشرة من قبل دولة إقليمية الى طرف دولي! وبالرغم من استفادة الروس من ذلك الفعل المتهور، الا أن ردة فعل روسيا ينبغي أن تكون مدروسة بصورة جيدة للحفاظ على هيبة قطبيتها، وكذلك عدم السماح لتكرار مثل ذلك الحدث من قبل تركيا أو غيرها من الدول التي لها تعاملات مع روسيا، والتي ستعيد حسابات تعاملها مع روسيا؛ وفق معطيات رد الفعل الروسي تجاه تلك الحادثة.
ربما تستمر تركيا بإستفزاز الروس ببعض التصريحات ليس الا، في محاولة منها لخلط الأوراق على روسيا، واستثارة الجهات التي لديها مشاكلا مع روسيا، وبالتالي الحط من هيبة روسيا أمام العالم!
ثمة توقعات لبعض المحللين السياسيين العالميين تتحدث عن نية تركيا لتحرير الموصل من داعش بدعم غربي وتشكيل إقليم سني في الموصل بقيادة عميلة للأتراك، وبالطبع فإن مثل هكذا مشروع يحتاج الى ضمانات كافية للغرب، بتسخير إقليم الموصل في خدمة المعارضة السورية ضد نظام الأسد، واتخاذ قرار حاسم من قبل الولايات المتحدة بالقضاء على أداة ثمينة كداعش، وضمان عدم عودة الموصل الى بغداد، ويستتبع ذلك تقديم تنازلات من قبل تركيا والغرب لأكراد العراق لضمان سكوتهم، ومع عدم تدخل الروس في حرب تحرير الموصل، وكل ذلك مرهون بقدرة الجيش التركي على مواجهة مقاتلي تنظيم داعش! ذلك مع فرض ان تركيا ستتخلى عن رعاية تنظيم داعش بل والقضاء عليه!
شخصياً أرى أن مثل هكذا تحليلات لا تعد سوى ضحكاً على الذقون، أو جهلا مركبا في التحليل السياسي يبديه بعض المحللين السياسيين العالميين والمحليين، فلا شيء من ذلك سيحصل، ولو انه حصل فسيبدو كأن الغرب يعمل لصالح الروس! لأن نتائج تلك الأفعال ستوضع في رصيد روسيا ولمزيد من الانتصارات المتحققة. فلا يمكن ان يكون الغرب بتلك الدرجة من الغباء، بل من الأولى نسبة الخلل الى تلك التحليلات! ناهيك عن التحليلات المحلية التي تتحدث عن مؤامرة تركية مع اكراد العراق، واتفاقات سابقة مبرمة مع نظام صدام البائد، وامثالها من الحكايات الخيالية!
إن تحرير الموصل لا يتم بقرار إقليمي تركي أو غيره، بل بقرار واتفاق دولي، لأن تحرير الموصل يعني بالضرورة انتهاء الصراع الدولي في سوريا، فما هي أسباب دخول الأتراك الى الموصل يا ترى؟!
يبدو لنا ان السبب الأساسي للتدخل التركي يكمن في فرض روسيا نفسها على الأرض في سوريا، وربما يمتد ذلك الى المناطق العراقية المغتصبة من قبل تنظيم داعش، وبالتالي تفوق روسيا على الولايات المتحدة في مضمار فرض القوى وتحقيق المصالح، لذا لم تجد الولايات المتحدة بداً من فعل شيء ما من شأنه أن يحد التدخل الروسي في سوريا، فقامت الولايات المتحدة بزج حليفها الإقليمي تركيا في أتون الصراع المباشر مع الروس في سوريا والعراق، وبذلك يتضح السبب الأساسي لدخول الجيش التركي الى الموصل، وهو محاولة عرقلة مخططات الروس في المنطقة وكسب الوقت، والذي سيستغرقه الروس في إعادة حساباتهم، بمحاولة فهم الغاية من ذلك الحدث الطارئ وأساليب التعامل معه. وبالطبع فإن هذا العمل ليس متهوراً كسابقه، وانما مخطط له من قبل الغرب وبتنفيذ تركي.
نعم يمكن القول ان حدث الدخول التركي الى الموصل، في أحد ابعاده من اجل مشاغلة الروس وكسب الوقت، فبعد أحداث فرنسا الإرهابية، والاتفاق الفرنسي الروسي لضرب داعش في سوريا والعراق، نلاحظ وباستغراب شديد أن روسيا لم تعتني بضرب داعش في الموصل بقدر عنايتها بضرب داعش في سوريا!
السبب المنطقي هو النفس الطويل للروس وذلك ما يجعلهم يتقدمون نحو مزيد من الإنتصارات بخطى متأنية. فالخطوة الأهم للروس هي تحصيل أكبر قدر من التفوق في الميدان السوري، وعدم الدخول في الميدان العراقي الا حين تقتضي الضرورة الماسة، من اجل عدم تشتيت جهدهم.
بعد انتهاء روسيا من الميدان السوري، سوف تتجه نحو الميدان العراقي، وتسدد ضربات موجعة لداعش وبالتالي ستكون مهمة تحرير الموصل على يد القوات الأمنية العراقية والحشد الشعبي أمراَ متيسراً، ولكن في الحقيقة لا شيء من ذلك سيحصل، وسيكون خيار الغرب بفتح ثغرات صراع أخرى مع روسيا لمشاغلتها في القرم وغيرها، هو الخيار الأرجح.
ولكن ماذا عن النفط الذي تنقله داعش الى تركيا وتقصفه الطائرات الروسية، وهو أهم سبب أدى الى استثارة حنق الاتراك وبالتالي اسقاطهم الطائرة الروسية؟ اليس وجود قوات تركية تنتقل بسلاسة بين تركيا والموصل سيجعل نقل النفط العراقي المهرب من داعش متيسراً؟! ولن تتمكن حينها الطائرات الروسية من ضرب الارتال العسكرية التركية.
سيما إذا علمنا ان تمويل داعش هو عن طريق بيع النفط العراقي والسوري المهرب الى تركيا، حيث تشتريه تركيا بثمن منخفض وتذهب أموال شراء النفط لتمويل داعش، أما بعد قطع تهريب النفط بسبب الضربات الروسية، سيكون من المحتم على تركيا الدفع من خزينة الدولة، وذلك ما يقتضي على الجيش التركي قيامه بالتغطية على نقل ذلك النفط المهرب بصورة مباشرة.
https://telegram.me/buratha