بثينة عليق
آل سعود وفقدان التوازن النفسي... من السلوك الاستهلاكي الى القرارات السياسية والعسكرية والاقتصادية
لم يكن تصريح ولي ولي العهد السعودي محمد بن سلمان حول خصخصة شركة ارامكو العملاقة إلا دليلا على الأزمة التي تعيشها المملكة العربية السعودية. كما أنه من غير الممكن فصل البعد الاقتصادي للأزمة عن مسار اقتصادي اعتمده آل سعود منذ سيطرتهم على السلطة في شبه الجزيرة العربية. اطلالة سريعة على أداء آل سعود منذ عشرينات القرن الماضي تظهر هشاشة الاستراتيجيات الاقتصادية المعتمدة. لا بل يمكن القول دون أية مبالغة أن العائلة الحاكمة والتي تولت حكم البلاد والعباد لم تكن تعمل وفق استراتيجية علمية محددة. لطالما تم تسيير الوضع الاقتصادي والمالي وفق مزاج الملك والامراء. وحدها المصالح الغربية وتحديدا الاميركية كانت تؤخذ بعين الاعتبار عند هؤلاء. وصلت الأمور في كثير من المحطات الى حد إعطاء الأولوية لمصالح "الاجانب" على حساب أبناء البلاد. الا ان الاكثر بروزا في هذا السياق يبقى ضمن السلوكيات الاقتصادية لابناء سعود والتي لم تتغير على الرغم من مرور السنوات وتغير الظروف.
تؤكد الدراسات الاقتصادية حول آل سعود أن المحرك الاساس لهؤلاء كان دائما الرغبة الشخصية لدى الملك والأمراء بالحصول على المال بطريقة سريعة دون أي حكمة او دراسة او دراية. انشاء شركة ارامكو في ثلاينيات القرن الماضي لا تخرج عن هذا الاطار. تؤكد الوثائق التاريخية ان ابناء سعود منحوا شركة سوكال الاميركية امتياز التنقيب على النفط (الشركة عدلت اسمها الى اراب اميركان اويل كومباني - ارامكو).
تُظهر بنود الاتفاقية أنها كانت مكسبًا كبيرًا للشركة إلا أنها غبنٌ للعربية السعودية. تحرك السعوديون بدافع الحاجة الماسة للمال فلم يترددوا بجعل الريع والايجار والقروض هي الركن الاساس في اتفاقية ارامكو. الاتفاقية هذه نصت على منح السعودية قروضا وبدلات ايجار مقابل الامتياز في حين أُعفيت الشركة الاميركية من الضرائب المباشرة وغير المباشرة والرسوم الجمركية وما الى ذلك. التسرع وغياب الحكمة والميل للربح السريع أمور أدت الى حرمان المملكة من خلال هذا البند مصدرًا هائلًا للعائدات مقابل منح الشركة امكانات ضخمة للحصول على ارباح مع الاشارة الى ان كل الشركات المنقبة في الدول الاخرى كانت تدفع الضرائب. لم يتردد الاميركيون المالكون لارامكو من استغلال هذا الوضع. ولطالما استخدموا اسلوبهم المفضل بالابتزاز. فلجأوا الى دفع القروض المطلوبة سعوديا اذا ما ارادوا تحقيق هدف سياسي وامتنعوا عن تلبية المطالب السعودية في ظروف سياسية اخرى.
حتى عندما التفت السعوديون الى الخديعة المالية وقاموا بفرض الضرائب على أرامكو، لجأت الاخيرة الى حيلة اخرى مرت على السعوديين. فقد احتسبت العوائد على اساس دخلها الاجمالي، ما ادى الى نتيجة مفادها ان ربح ارامكو كان يصل الى 81 % من الرأسمال المستثمر، اما في الولايات المتحدة فكان ربح الشركة لا يتخطى الـ 10% .
ومع السنوات، تضاعفت عوائد السعودية عشرات المرات وتعاظمت الاكتشافات النفطية، الا ان المملكة ظلت محكومة بعقلية القبيلة. وشيوخ القبيلة هذه على قناعة تامة لا تتزحزح بأن العوائد النفطية يجب ان تنفق في المقام الاول على احتياجات العائلة المالكة، تفاقم الوضع بشكل دراماتيكي مع اكتشاف الامراء لنمط الحياة الغربي. يقول بروشين فيورد في كتابه "جحيم الحكم السعودي" ان ال سعود وخلال فترة الاكتشافات النفطية الاولى "فقدوا توازنهم النفسي بالتزامن مع اكتشاف العالم الاخر. تاقت انفسهم لنمط الحياة الغربية بطريقة غير عقلانية. اقترن ذلك بالعجز التام عن التوفيق بين النفقات والمداخيل. مارس هؤلاء انفاقا لم يسبق له مثيل في التاريخ في بلد تشكل غالبيته سكان شبه جياع يرزحون في لجة الفقر والامراض".
في تلك الفترة امتلأت الصحف الغربية بالتقارير التي تروي قصص الانفاق المجنون والاسراف المتحرر من أية ضوابط. يروي هيوارث في كتاب ملك الصحراء ان "شذاذ الآفاق والنصابين تقاطروا على الرياض، ورست الصفقات لمن يدفع رشوة اكبر. واستشرى الفساد في البلاط الملكي وجهاز الموظفين وبلغ مدى مروعا. وكان التجار الجشعون يخدعون ابناء سعود ويبيعون السلع والخدمات باسعار تزيد خمس او عشر او عشرين مرة عن سعرها الحقيقي".
بروشين تحدث عن هذه النقطة ايضا فلفت الى ان "الفساد استشرى في البلاد والرشوة أخذت تنخر جهاز الدولة من أعلاه الى أدناه وزاول الكثير من أفراد العائلة المالكة والامراء عمليات مالية غير مشروعة. وعرفت البلاد ظاهرة الطلب على العبيد الذين كانوا يتعرضون لاستغلال بشع ومعاملة قاسية".
لم يكتف ال سعود بإرساء هذه القواعد في المجتمع السعودي وتحويلها الى ثوابت، حرص أصحاب النفوذ من الأمراء على إجهاض اي حركة اعتراضية او احتجاجية. والحق يقال انهم لم يكونوا اصحاب الكلمة الاولى على هذا الصعيد. اذ ان الاميركيين الذين كانوا يملكون شركة ارامكو في تلك المرحلة هم الذين أداروا عمليات قمع حركات احتجاجية لعمال شركة ارامكو وصلت ذروتها في خمسينيات القرن الماضي.
طالب العمال المحتجون بزيادة الأجور ووقف التمييز العنصري وتوفير مساكن للعمال ودفع أجور النقل واعتماد اللغة العربية، بالمقابل اعتبر الاميركيون المطالبة بالحقوق خطاً أحمر فدفعوا الملك الى إصدار قرار يمنع الإضرابات والتظاهرات وبدأت حملة اعتقالات وتعذيب للعمال النشطاء. وبالفعل فقد نجح الاميركيون بتأييد من الأمراء في جعل العام 1956 هو العام الذي شهد آخر تحرك عمالي في المملكة العربية السعودية. أجهض السعوديون وارامكو أية امكانية لتحرك مطلبي ولو كان صغيرًا ومحدودًا. الا ان هؤلاء لم يستطيعوا منع التداخل بين الوضع الاقتصادي والاستقرار السياسي الداخلي. فقد أكدت وقائع وأحداث في غير مرحلة أن الازمات الاقتصادية تترافق مع بلبلة سياسية. حصل الامر في خمسينات القرن الماضي. أدى تبذير الملك سعود وانخفاض عوائد النفط الى الانقلاب على الملك سعود ليتولى فيصل مكانه.
تكرر الوضع في ثمانينات القرن الماضي، حيث كانت الازمة الاقتصادية حادة جدا، فقد ادى انخفاض اسعار النفط الى تقليص عوائد الدولة بنسبة 32%وجرى حصر موازنة الايرادات والنفقات في اطار شهري وتم تأجيل تنفيذ المشاريع المقررة واضطرت الحكومة الى تقليص النفقات لدرجة كبيرة في جميع ابواب الميزانية.
انعكس الامر بشكل مباشر على الحياة اليومية للناس. ففي العام 1985 زيدت أسعار الطاقة الكهربائية بنسبة 70% كما ارتفعت اسعار البنزين وزيدت ضريبة الإقامة وتأشيرات الخروج واستبدال الكفيل للاجانب. وفي العامين 1984 و1985 افلس قرابة ثلث الشركات المقاولة البالغ عددها 1200 او أنها واجهت صعوبات مالية بالغة. وقد دفع ابناء الشعب ثمنًا وضريبة لغياب الاستراتيجيات الاقتصادية والاجراءات الوقائية او العلاجية في مثل هذه الظروف. وحدهم الاميركيون وزملاؤهم من الاوروبيين العاملين في المملكة ظلوا بمعزل عن تداعيات هذه الازمة، فعندما اضطرت الحكومة لرفع الدخل على الخبراء الاجانب في منتصف الثمانينيات الغيت هذه الضريبة بأمر ملكي خاص صدر بعد يومين من فرضها.
الا أن ما لم تستطع الارادة الملكية المدعومة أميركيا منعه في الثمانينات هو استمرار ما يسميه ستيفان لا كروا في كتابه زمن الصحوة بـ"الالة الجميلة دون اعطال"، التجربة الاقتصادية لال سعود اظهرت ان نظامهم " كان يشكو خللًا رئيسيا وهو طلب الحاجة في سبيل الإبقاء على التغذِّي بالموارد يشكل مستمر، وحين نقصت الموارد في منتصف الثمانينات بدأت الآلة الجميلة تعرف اعطالا". فطفت على السطح مجموعات شبابية وهابية تربت في مدارس المملكة ونهلت من مناهجها التربوية لتؤسس لما بات يعرف بانتفاضة الصحوة التي شكلت اول هزة عنيفة للنظام السعودي الذي كان يبدو منيعا حتى تلك الفترة. وقد استطاع النظام إحكام السيطرة على الوضع في العام 1994 .
إلا أن الوضع اليوم يبدو مختلفا؛ فالمملكة التي يعلن ولي ولي عهدها قرار خصخصة شركة ارامكو لم تعد بالمناعة نفسها في ظل انخفاض حادٍّ في موارد الدولة وبالتزامن مع توسع انتهاج الممارسات اللامتوازنة لأبناء العائلة المالكة من الاقتصاد والاستهلاك الى السياسة والعسكر. فهل يمكن اعتبار قرار خصخصة أكبر شركة نفطية في العالم مؤشرا على اقتراب المملكة من التداعيات الخطيرة والازمات الجديدة؟
https://telegram.me/buratha