لا شك أن الحرب الاعلامية ومحاولة السيطرة السردية لعبتا دورًا هامًا منذ بداية الحرب السورية. ولا شك ايضًا ان الطرف المعادي لسوريا سجل نقاطا في هذا المجال على حساب الطرف الاخر بسبب امتلاكه منظومة اعلامية ضخمة ممولة ومزودة باحدث التقنيات والاساليب. الا ان عشية العام الخامس للحرب شهدت محاولة من خارج الاصطفاف التقليدي. وقد استطاعت هذه المحاولة ان تغير ولو نسبيا من موازين القوى الاعلامية والسردية. المحاولة هي كتاب "الاسد بين الرحيل والتدمير الممنهج. الحرب السورية بالوثائق السرية " للاعلامي سامي كليب.
يبدو واضحا ان الكتاب نجح في فرض سردية مغايرة لتلك التي حاول الاعلام المعادي للدولة السورية الترويج لها على مدى خمس سنوات.
فرض الكتاب نفسه بقوة في المشهد الاعلامي والسياسي والثقافي. استطاع منذ ايام صدوره الاولى ان يحقق نسبة مبيعات قياسية في لبنان والعالم العربي. ووجد مكانه ايضا في المكتبات العالمية. وقد حاضر الكاتب حوله في ندوات في عواصم عربية واوروبية. علما ان التفاعل الغربي مع الكتاب غير مستغرب، فالكاتب سامي كليب لديه فهم عميق ودقيق للمجتمع الغربي من خلال ممارسته للعمل الاعلامي في الغرب لسنوات طويلة.
ولعل المساحة التي افردتها مجلة "العربي الجديد" القطرية لنقد الكتاب ما هي الا دليل اضافي على ان الكتاب نجح في استفزاز جهة لم توفر أي وسيلة او طريقة الا واستخدمتها للترويج لرواية قطرية تركية اميركية للحرب في سوريا. خصصت الصحيفة صفحتين كاملتين للكتاب، مع ان السياسة التحريرية للعربي الجديد تحرص على عدم تخصيص هذه المساحة لاي من المواضيع مهما بلغت اهميتها. المقالة حول الكتاب شكلت استثناء واضحا.
قراءة الكتاب بتمعن تظهر أن أهمية الكتاب تنبع من عوامل عدة. تقديمه لما يشبه "الهوية السردية" للأزمة السورية إحداها. فالكتاب يحتوي على عرض كرونولوجي شامل للاحداث منذ بدايتها حتى لحظة الاصدار. العرض هذا في غاية الاهمية وتلجأ اليه مراكز الدراسات العالمية على اعتباره عنصرا ضروريا وحتميا لتقدير المواقف تجاه الاحداث والقضايا. اما في الازمة السورية فهو حاجة واجبة وماسة. يعوِّض كليب بمنهجيته هذه عن فراغ كبير خلفته التغطية الاعلامية المجتزأة والمقاربات الانتقائية التي زخر بها الفضاء الاعلامي العربي والغربي فيما يخص الازمة السورية.
اما عامل النجاح الثاني والذي لا يقل اهمية عن الاول فهو الاستناد الى الوثائق، خاصة السرية منها، والتي ظهرت الى العلن للمرة الاولى من خلال الكتاب اضافة الى الاستشهاد بعشرات الكتب ومئات الدراسات والمقالات التي تناولت الشأن السوري عربيا وعالميا فضلا عن تقديم شهادات للمعنيين بالاحداث وصانعيها. امر ساعد على تقديم صورة شاملة للأزمة السورية ومن مختلف الجوانب والزوايا.
من خلال هذه المنهجية يعود الكاتب الى جذور الازمة وتحديدا منذ تولي الرئيس بشار الاسد الحكم في بلاده. يعيد الكاتب الى الاذهان ما اسماه "الاخطبوط من المصالح الحزبية والسياسية والامنية الذين كانت الاصلاحات ستضر بمصالحهم فسعوا لعرقلة مسيرة الاسد" ويشير الى المواقف الدولية الفرنسية وحتى الاميركية المرحبة بوصول الرئيس الاسد الى سدة الرئاسة في سوريا فضلا عن زعماء عرب اعتبروا وتصرفوا على اساس ان الطريق التي رسمها حافظ الاسد ستستمر مع نجله الذي "يحافظ على الاستقرار والنمو لبلاده" . الا ان المديح والترحيب كانا يهدفان الى تحقيق ما اسماه الكاتب بـ "لب الاهداف الاميركية " والمقصود هنا "دفع بشار الاسد منذ البداية للانفتاح على اسرائيل وعقد صلح معها".
احتلال العراق كان محطة مفصلية في لعبة الامم التي شهدتها سوريا، يوضح الكاتب ان "الشيء الوحيد الذي تم اقتراحه على النظام السوري، ابان الاندفاعة الاميريكة في بلاد الرافدين، هو الاستسلام. لكن الذي جرى كان صمود النظام. ليس هذا فقط. فقد اتخذ الاسد قرار الذهاب الى مقاومة اميركا في العراق. يورد كليب محضر لقاء الاسد بالسيد علي الخامنئي قبل اجتياح العراق. كان لسان حال الاسد في كل اللقاءات مع القيادات الايرانية ان الحل هو فقط بالاعداد للمقاومة. منذ تلك الساعات "بدأت الحملة الممنهجة لتدمير سوريا ان لم تغير استراتيجيتها وتنحو صوب الدول الحليفة لاميركا والقابلة بالسلام مع اسرائيل". هذا مابدا واضحا من خلال الرسالة التحذيرية والمباشرة التي حملها وزير الخارجية الاميركي كولن باول في ايار 2003. اللقاء الذي كثر الحديث عنه من قبل المحللين والمراقبين والسياسيين نشر كليب محضره الرسمي للمرة الاولى في كتابه. الوثيقة الهامة تضمنت طلبا اميركيا واضحا ومباشرا لا يقبل الالتباس. " كان باول يستخدم عبارة نريد ونطلب". "حمل جزرات قليلة وعصيا اكثر " . المطلب الاساس كان تخلي سوريا عن دعم المقاومة ضد اسرائيل . ولما رفض الاسد "انفتح باب الاعداد لاضعاف الدور السوري" . هنا يبدأ كليب بعرض خطوط اللعبة واحدا تلو الاخر .
"تل أبيب" أولوية
يظهر بوضوح من خلال هذا العرض الدور الاسرائيلي. في مختلف الوثائق التي نشرت في الكتاب والمتعلقة بلقاءات مسؤولين اجانب مع الرئيس الاسد منذ توليه الرئاسة يتبين دون ادنى شك ان "اسرائيل هي الاولوية" لدى زوار دمشق الغربيين الذين بدوا ممتعضين لدرجة كبيرة من خطابات الاسد التي تضمنت لغة متحدية لتل ابيب وداعمة للمقاومين في لبنان وفلسطين. التسوية مع اسرائيل كانت مطلبا حمله باول الى الاسد ثم موريس غوردو مونتانيو مستشار الرئيس الفرنسي جاك شيراك ثم خلال لقاءات الرئيس الفرنسي ساركوزي مع الاسد. يورد كليب بالتفصيل مواقف الاسد هذه ويخلص الى ان انخراط الاسد في مساعدة المقاومة "لعب دورا مفصليا في تسريع خط التدمير الممنهج للجيش السوري وللدولة السورية منذ اندلاع اولى شرارات الحرب عام 2011". في هذا السياق يقدم كليب الرواية الكاملة للقرار 1559 وهو في الاصل فكرة فرنسية بعد ان اصبحت باريس خاضعة للسطوة الاسرائيلية الاميركية .
شكلت المصالح الاسرائيلية خلفية اساسية لفهم ما يجري ولكن هذا العامل لم يكن الوحيد. يروي كليب في كتابه ايضا رواية مشروع "الاخوان المسلمين" المدعوم اميركيا والذي لزَّمته واشنطن لانقرة ممثلة بالرئيس التركي اردوغان.
هنا ايضا يبتعد الكاتب عن اسلوب الكليشيهات والمواقف الجاهزة . يلجأ الى الوثائق. يظهر الموقف التركي من خلال محضر لقاء الاسد مع احمد داود اوغلو في اب 2011. يتبين من المحضر ان تركيا كانت تريد ومنذ الاشهر الاولى للاحداث في سوريا "تغيير النظام السياسي وليس المساعدة على التهدئة والاصلاح وان انقرة تريد تعزيز دورها الاقليمي على جسر الاخوان المسلمين". "تريد تركيا ان تجلس في مكان السائق لتقود عملية رسم حدود خريطة الشرق الادنى التي بدأت بالظهور".
لم تكن تركيا وحدها هي حصان الاخوان المسلمين بتكليف اميركي. برز ايضا الدور القطري. يبين الكتاب كيف عملت اميركا على تمكين الحكم للاخوان المسلمين في المنطقة العربية منذ خطاب اوباما الشهير في القاهرة ويكشف عن وثيقة استراتيجية وسرية للبيت الابيض تشرح ان "التنظيم هو البديل المعتدل للتنظيمات الاسلامية الاكثر عنفا كالقاعدة وداعش.
لسوريا نصيبها من هذا المخطط. وقد تولت قطر العمل على المشروع على اكثر من جبهة. الجامعة العربية احداها. يشرح كليب بالتفصيل كيف ضغطت قطر على الجامعة العربية "لتلعب اغرب ادوارها واكثرها مثارا للجدل". هنا ايضا تتولى الوثائق التي يتضمنها الكتاب اماطة اللثام عن "الغرائب العربية"، وعن الغرف الاستخباراتية التي انشئت لاسقاط النظام السوري وعن "الفترة البندرية التي كانت واحدة من مآسي التآمر على الانسان السوري وليس النظام".
عرض الكتاب في هذا السياق وقائع لقاءات الاسد مع الوفد العربي برئاسة رئيس الوزراء القطري في تشرين الاول 2011 ومحاضر مراسلات الجامعة العربية ودمشق. يحلل كليب هذه الوثائق ويبني استنتاجاته انطلاقا من وقائعها الموثقة. يتضح ان هذا الوفد حمل رسائل اميركية الى دمشق وان اعضاء من الوفد تحدثوا صراحة عن وجود مخططات جاهزة لتفكيك سوريا.
هكذا يتمكن الكتاب من اعطاء القارىء فرصة الاطلاع على المشهد كاملا وموثقا ومستندا على المعطيات، ما يعطي لتحليل الكاتب متانة وقوة ومصداقية. المنهجية ذاتها تحضر عند استعراض مواقع ومواقف حلفاء الاسد من موسكو الى طهران مرورا بالعراق وحزب الله.
التحالف السوري - الايراني
ينجح الكتاب في وضع تحالفات دمشق في اطارها الصحيح وهو ما اثبتته الوقائع الاخيرة. فما يجمع موسكو ودمشق اعداء مشتركون: الارهاب وصواريخ الاطلسي وحرب الانابيب. يجزم الكتاب ان القيادة الروسية حسمت امرها بالوقوف الى جانب القيادة السورية وانها شكلت سدا منيعا في مجلس الامن حيال اي مخططات غربية ضد الاسد وان بوتين يعتبر ان الورقة السورية لها اهميتها الكبرى في الصراع الدولي. عندها لا يعود مستغربا ارسال روسيا لطائراتها وبوارجها لدعم الدولة السورية والاسد عسكريا تمهيدًا للحل السياسي.
اما الحليف الايراني فموقفه متصل بوقائع تاريخية جعلت العلاقات بين البلدين "تحافظ على تقدمها على الرغم من كل الرياح التي عصفت بالشرق الاوسط. لم يتغير الوضع مع الزلزال الذي ضرب المنطقة ومركزه سوريا. منذ الايام الاولى وصلت "رسالة قوية من مرشد الجمهورية السيد الخامنئي الى الاسد تؤكد وقوف ايران قيادة وحرسا وشعبا مع سوريا بقيادة الاسد. ترجمة هذا الدعم الايراني كانت قرارا مركزيا بالدعم العسكري المباشر والسبب ان القراءة الاستراتيجية لايران "ان استهداف سوريا هو استهداف لطهران وكسر لجسر تواصلها مع المقاومتين الاسلاميتين في لبنان وفلسطين".
لا تختلف دوافع حزب الله لدعم سوريا عن منطلقات ايران. فالحزب الذي صار مع بشار الاسد "حليفا استراتيجيا ليس بالشعار فقط، وانما بالممارسة وبالعلاقة المباشرة والصادقة والعميقة ايضا. ادرك ان اسقاط الاسد مصلحة اميركية واسرائيلية. كما ان تعاون المعارضة السورية بشكل واضح ومريب مع اسرائيل عزز خيارات الحزب التي سرعان ما تحولت الى قرار بالدعم العسكري المباشر.
هكذا نجح الكتاب في تقديم عرض سلس ومترابط وممنهج للوقائع والشهادات والمعطيات فتأتي الخلاصات منطقية وعلمية وابرزها ان " ما جرى في سوريا لم يكن حربا اهلية انما حرب على سوريا ودورها وارتباطها بالمحور الذي تنتمي اليه وان تقسيم سوريا يبقى مستحيلا مهما تعاظمت المؤامرات وان الاسد كان ولا يزال الشخصية المحورية الاهم لبقاء الجيش السوري وحلفائه قادرين على القتال حتى اليوم... انه كتاب يستحق القراءة.
https://telegram.me/buratha