لغزان إضافيان برزا أمس ليعززا غموض المشهد التركي المضطرب منذ ليلة انقلاب الهواة الجمعة الماضي. لماذا لم يقتل الانقلابيون الرئيس رجب طيب اردوغان عندما كانت طائرته عائدة من منتجع مرمريس في سماء اسطنبول تحاول عبثا الهبوط؟ وماذا يعني فتح تحقيق يطال قاعدة «انجيرليك» الجوية التي يستخدمها الأميركيون في إطار «الحرب على الإرهاب»؟
ألغاز المشهد التركي لا تُحصى منذ ليل الجمعة، لكنها ازدادت التباسا فيما لا تزال واشنطن تحاول لليوم الثالث على التوالي إبعاد «تهمة» التورط في المحاولة الانقلابية ضد أردوغان. الصوت الأميركي ـ الأوروبي المشترك ضد سياسة «التطهير» التي تنفذها جماعة اردوغان والتلويح بتعليق المشانق لآلاف المعارضين، أعادا طرح تساؤلات حول متانة العلاقات الاميركية ـ التركية، ومستقبل الرهان التركي على الارتباط بالمحيط الاوروبي، وحتى بحلف شمال الاطلسي الذي بدوره ذكّر الحكم التركي بضرورات احترام العملية القانونية والدستور في مواجهة الانقلابيين.
وبينما أطلق المواطنون الأتراك حملات على وسائل التواصل الاجتماعي تنادي بحماية كرامة الجيش التركي وترفض الإهانات والتنكيل التي يتعرض لها الضباط والجنود، فإن ما نشر من فظائع ارتُكبت في الشوارع بحق الجنود المستسلمين، ستترك ندوباً عميقة في الجسد التركي لمدى طويل، وقد ترتد مفاعيلها كما حذر العديد من المحللين والمراقبين، على حكم اردوغان نفسه في مدى ليس بعيدا.
وتمثلت المفاجأة الاولى في ما نشره معهد «ستراتفور» المعروف بارتباطه بأجهزة الاستخبارات الاميركية، عن إحداثيات انطلاق طائرة اردوغان من «مطار دالامان» بالقرب من منتجع مرمريس، نحو الساعة 22:40 من مساء الجمعة بتوقيت غرينتش، فيما ظلّت الطائرة تدور في مسار تحليق ثابت جنوب اسطنبول، بينما كان يُسمع أزيز زخّات من الرصاص في مطار اتاتورك، قبل أن تهبط قبيل الساعة الثالثة من فجر السبت.
وخلال رحلته من «دالامان» إلى اسطنبول، تحرّشت طائرتا «اف ـ 16» تابعتين للانقلابيين بطائرة اردوغان، لكنّهما سمحتا له بإكمال رحلته. وقال ضابط عسكري سابق مُطّلع على تطورات الأحداث لوكالة «رويترز» إن «طائرتين على الأقل من طراز اف ـ 16 تحرّشتا بطائرة اردوغان وهي في الجو في طريقها إلى اسطنبول. وثبّتت الطائرتان راداريهما على طائرته وعلى طائرتين أخريين من طراز إف ـ 16 كانتا تحرسانه». ولم يستطع الضابط تقديم تفسير لسبب عدم إطلاق الطائرتين نيرانهما، معتبراً أن ذلك «يظلّ لغزاً».
أما اللغز الثاني الذي برز امس فتمثل ببدء الشرطة التركية عملية تفتيش في قيادة «إمداد الوقود العاشرة» في قاعدة «أنجيرليك» التي يستخدمها «التحالف الدولي» بقيادة واشنطن ضدّ تنظيم «داعش» في العراق وسوريا.
وأفادت مصادر في النيابة العامة في أضنة بأن طائرات الإمداد بالوقود، التي زوّدت طائرات «اف 16» التابعة للانقلابيين التي كانت تقصف أنقرة خلال الانقلاب، حلّقت من القاعدة التي يستخدمها الأميركيون.
وكانت السلطات التركية قد اعتقلت الجنرال في سلاح الجو بكير ارجان فان و12 ضابطاً في قاعدة «انجيرليك» امس الاول. كما أوقفت الشرطة التركية، سبعة من العاملين في قيادة القاعدة الجوية الثالثة في ولاية قونية بينهم قائد الطلعات الجوية مصطفى إرتورك.
وأدى غلق القاعدة «انجيرليك» السبت الماضي الى تعليق غارات التحالف، لكن واشنطن أعلنت الاحد استئناف العمل في القاعدة الجوية التي كانت الولايات المتحدة قد حصلت على موافقة أنقرة لاستخدامها في العام 2015.
وقال مسؤولون اتراك إنهم يشتبهون في ان القاعدة القريبة من الحدود مع سوريا استُخدمت في تموين طائرات عسكرية سيطر عليها منفذو محاولة الانقلاب.
«التطهير» وعزلة تركيا
الى ذلك، تواصِل السلطات التركية رفع سقف ردّة فعلها على محاولة الانقلاب الفاشلة الى أعلى درجة ممكنة، موسّعة من مروحة الاعتقالات التي طالت آلاف العسكريين والقضاة، وسط تلميحات الى إمكانية إجراء تعديل دستوري لإعادة العمل بعقوبة الإعدام اقتصاصاً من الانقلاببين. وفيما سمّت الحكومة الانقلابيين رسمياً بـ «الإرهابيين» تمهيداً لشملهم بالتبعات القانونية وإجراءات مكافحة الإرهاب، بدأت ردود الفعل الدولية المعاكسة تتعالى، محذّرة أردوغان من الذهاب بعيداً في «استغلال» الانقلاب عبر تنفيذ إجراءات تثير الشكوك وتطرح أسئلة خطيرة.
وردّ وزير الخارجية الأميركية جون كيري، على مطالبات تركيا المتكررة بتسليم الداعية فتح الله غولن، داعياً إيّاها الى تقديم «أدلة لا ادّعاءات» ضد الزعيم المعارض البالغ من العمر 75 عاماً والذي يعيش في شمال الولايات المتحدة منذ العام 1999.
ودعا كيري، من بروكسل إثر اجتماع مع وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي، الحكومة التركية بـ «حزم الى الحفاظ على الهدوء والاستقرار في البلاد»، وطالبها بـ «احترام المؤسسات الديموقراطية للأمة واحترام دولة القانون»، مستخدماً مستقبل تركيا في «الناتو» كورقة ضغط، حيث قال إن لحلف الأطلسي متطلبات واضحة بخصوص الديموقراطية، وإن الحلف سيراقب بدقة ما يحصل في تركيا.
ومن جهته، قال المتحدّث باسم الخارجية الأميركية مارك تونر، إن الولايات المتحدة لم تصدر أي تقييم بشأن ما إذا كان لغولن أي دور في محاولة الانقلاب. وإذ قال إن بلاده سترحّب بأي طلب رسمي من تركيا لتسلم غولن إذا كان هناك أي دليل على ضلوعه في الأمر، لفت الى أنه حسب معلومات وزارة الخارجية الأميركية، فإن غولن يعيش في سلام في بنسلفانيا.
وفي ردّ مباشر على تلميحات المسؤولين الأتراك، على رأسهم أردوغان، بإعادة العمل بعقوبة الإعدام للتخلّص من قادة الانقلاب، قالت وزيرة خارجية الاتحاد الأوروبي فيديريكا موغيريني، إنه «لا يمكن لأي بلد أن ينضم الى الاتحاد الأوروبي إذا كان يطبق عقوبة الإعدام»، وذكّرت القادة الأتراك بأن بلادهم عضو في مجلس أوروبا وإحدى الدول الموقّعة على الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان التي تمنع تطبيق عقوبة الإعدام في أرجاء القارة.
أما المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، فقالت خلال اتصال هاتفي بالرئيس التركي، إن إعادة عقوبة الإعدام في القانون الجنائي التركي أمر غير مقبول، بالنسبة لألمانيا والاتحاد الأوروبي على وجه العموم، ودعته الى الالتزام بمبدأ سيادة القانون في التعامل مع محاولة الانقلاب العسكري، لافتة الى أن بلادها قلقة جداً بسبب موجة الاعتقالات التي تنفّذها السلطات التركية.
وكان المتحدث باسم الحكومة الألمانية شتيفن زايبرت، أكثر حزماً حينما أكّد أن إعادة إدراج عقوبة الإعدام من شأنها إنهاء مفاوضات انضمام أنقرة الى الاتحاد الأوروبي. وألقى الضوء على مشاهد العنف في الشوارع التركية، وقال إنه «في الساعات الأولى التي تلت الانقلاب شهدنا مشاهد مقززة من التعسّف والانتقام ضد الجنود في الشوارع.. هذا لا يمكن قبولها»، معتبراً أنه عندما يتم في أحد الأيام بعد محاولة الانقلاب عزل 2500 قاضٍ من مناصبهم، فهو أمر «يطرح أسئلة خطيرة وشكوكاً».
واتّصل الأمين العام لحلف شمال الاطلسي «الناتو» ينس شتولتنبرغ بالرئيس التركي، مذكّراً إياه بـ «ضرورة» أن تحترم تركيا بالكامل دولة القانون والديموقراطية بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة، فيما ذهب المفوض الأوروبي لشؤون التوسيع يوهانس هان، المُكلّف ملف انضمام تركيا إلى الاتحاد، إلى حد الإشارة إلى أن الحكومة التركية كانت تملك قبل محاولة الانقلاب لوائح جاهزة بأسماء من تريد توقيفهم.
اردوغان
علّق أردوغان، في حديث لـ «سي ان ان تورك»، على احتمال إعادة العمل بعقوبة الإعدام في البلاد، قائلاً «هناك جريمة خيانة واضحة والطلب (إلحاق عقوبة الإعدام) لا يمكن أبداً أن ترفضه حكومتنا، ولكن بطبيعة الحال سيتطلب الأمر قراراً برلمانياً، وبعد ذلك وكرئيس للبلاد سأوافق على أي قرار يصدر عن البرلمان».
وقال اردوغان: «الآن لدى الناس فكرة بعد العديد من الأحداث الإرهابية بأن الإرهابيين لا بد من قتلهم، ولا يرون أي نتيجة أخرى مثل السجن المؤبد، لماذا ينبغي إبقاؤهم وإطعامهم في السجون على مدى سنوات مقبلة، يريدون (الناس) نهاية سريعة، لأن الناس فقدوا أطفالا، بعمر ثماني سنوات وشبابا بعمر 15 سنة و20 عاما ممن قتلوا للأسف في هذه الأحداث، هناك أمهات وآباء حزينون ويعانون والناس يمرون بأوقات حساسة وعلينا التعامل بطريقة حساسة للغاية».
وكان رئيس الوزراء التركي بن علي يلديريم، قد مهّد لاحتمال اتخاذ موقف تراجعي في ما يتعلق بعقوبة الإعدام، قائلا إنه «من الخطأ اتخاذ قرار متسرّع» بشأن عقوبة الإعدام.
واشنطن وأنقرة
وفي مؤشر على التوتر مع الاميركيين، لفت يلديريم الى أن بلاده ستلجأ إلى إعادة النظر في صداقتها مع واشنطن في حال عدم تسليم الأخيرة فتح الله غولن، قائلاً «إذا كان أصدقاؤنا يطالبوننا بأدلة وبراهين تثبت ضلوع ذاك القابع في الولايات المتحدة، بمحاولة الانقلاب، (في إشارة إلى غولن) رغم كل هذا التنظيم والإدارة من قبله، فإننا سنصاب بخيبة أمل وربما نلجأ إلى إعادة النظر في صداقتنا معهم».
واستنكر السفير الأميركي في تركيا جون باس، الفرضيات التي أشارت الى دعم أميركي للانقلاب، والتي تروج لها «وسائل إعلام وللأسف بعض الشخصيات»، قائلاً في بيان إن «هذا الأمر خاطئ تماماً ومثل هذه التخمينات تسيء الى عقود من الصداقة».
«التطهير»
واصلت السلطات التركية إجراءات «تطهير» مؤسسات الدولة من الانقلابيين، على حدّ وصفها. وبلغ عدد القضاة والمدّعين العامين والعسكريين وأفراد الشرطة والموظفين الحكوميين، الموقوفين في إطار التحقيقات، 8314، تم حبس 386 منهم، وإطلاق سراح مشروط لـ65، فيما أُخلي سبيل 12 موقوفاً، وتمّت إقالة 9 آلاف شرطي ودركي وموظف حكومي.
وأعلن يلدريم أنه جرى توقيف أكثر من 7500 شخص بينهم 6038 عسكريا و755 قاضياً و100 شرطي. وأشار إلى ارتفاع عدد قتلى الانقلاب إلى 308 بينهم 100 من الانقلابيين.
بدورها، أفادت وكالة «رويترز» عن إقالة ثمانية آلاف شرطي بينهم 103 من ذوي الرتب الرفيعة صدرت قرارات قضائية باعتقال 41 منهم بعد إحالتهم إلى المحكمة، و30 حاكماً إقليمياً وأكثر من 50 من كبار الموظّفين من مناصبهم.
وذكرت وكالة «الاناضول» انه تم توقيف 103 جنرالات واميرالات من سلاح الجو والبر والبحر، ونشرت قائمة مفصلة بأسمائهم.