صوفيا ـ جورج حداد
تنطلق السياسة الخارجية الروسية في العلاقات مع تركيا من ثوابت رئيسية في العقيدة الجيوستراتيجية الاوراسية التي تتبناها روسيا. وأحد أعمدة هذه العقيدة هو تحقيق التقارب الروسي ـ التركي، بالنظر، أولا، الى الجوار الجغرافي بين البلدين، وثانيا، الى العلاقات الدينية والعرقية لتركيا بالقسم الأكبر من مسلمي روسيا والجمهوريات "السوفياتية" السابقة في آسيا الوسطى.
روسيا كانت تريد فتح صفحة تاريخية جديدة مع تركيا
وبالرغم من السياسة العدائية والاستفزازية التي كانت تنتهجها تركيا على الدوام ضد روسيا، كمساعدة الإرهابيين والمخربين "الاسلامويين" الشيشانيين وغيرهم، وتحويل تركيا الى قاعدة للناتو ضد روسيا، فقد كانت روسيا تتحلى بالصبر وطول الاناة والتعامل مع تركيا انطلاقا من مبادئ حسن الجوار والصداقة بين الشعوب. وفي كانون الأول 1914 حينما اعلن الرئيس بوتين عن وقف العمل بمشروع مد أنبوب الغاز القاري المسمى "السيل الجنوبي" عبر بلغاريا، اعلن في الوقت نفسه تغيير وجهة سير الانبوب كي يمر في الأراضي التركية، وتصبح تركيا موزع ترانزيت رئيسيا للغاز الروسي، الى أوروبا الوسطى والجنوبية والشرقية، مما يعزز مكانتها لدى الاتحاد الأوروبي وفي العالم. وبناء لاقتراح اردوغان وافق الرئيس بوتين على ان يصبح اسم المشروع "السيل التركي".
وفي شهر أيلول 2015 تمت اعمال ترميم وتوسعة الجامع الكبير في موسكو التي دامت عدة سنوات، وتوج الجامع بالقبب الذهبية على غرار قبب الكرملين، واصبح اكبر جامع إسلامي في أوروبا. ودعي الرئيس التركي رجب طيب اردوغان بوصفه ابرز ضيف في الافتتاح، وجلس في المنصة الرئيسية الى يمين الرئيس بوتين الذي جلس عن يساره راوي عين الدين رئيس مجلس المفتين في روسيا. وفي كلمته في الافتتاح قال الرئيس بوتين "ان روسيا هي دولة مسيحية ارثوذوكسية ـ وإسلامية في الوقت ذاته".
وخلال السنوات الماضية وسعت روسيا ونوعت بشكل ملحوظ علاقاتها التجارية والسياحية والاقتصادية عامة مع تركيا، مما كان يصب في مصلحة تركيا، اكثر بكثير مما يصب في مصلحة روسيا.
فكيف استقبلت المراجع العليا التركية هذه "الرسائل" و"الإشارات" الروسية الإيجابية جدا لصالح إقامة علاقات صداقة وثيقة مع تركيا؟
لا شك ان قسما كبيرا من النخبة السياسية للدولة التركية كان ينظر بانفتاح الى السياسة الإيجابية الروسية حيال تركيا، ومن ثم كان يؤيد فكرة تصفير الخلافات مع جيران تركيا، وهو ما عبر عنه بوضوح رئيس الوزراء التركي السابق محمد داود اوغلو، مخالفا السياسة التي كان ينتهجها الرئيس رجب طيب اردوغان والتيار المؤيد له. وهذا ما ينبغي التوقف عنده بشكل خاص.
اردوغان يمارس سياسة المراوغة والكذب
الواقع ان التيار السياسي "الاسلاموي" ـ الحداثي الذي يقوده الرئيس اردوغان في تركيا، والطامح الى تجديد الإمبراطورية العثمانية القديمة و"استعادة أراضيها" بل وتوسيعها، قد استخدم سياسة التقارب الروسي مع تركيا، للتظاهر بـ"حيادية" تركيا، ولتغطية اهدافه الحقيقية، وبالأخص لتغطية تحويل تركيا الى قاعدة تجميع وتمويل وتنظيم وتدريب وتسليح "الجيش "الاسلاموي" العالمي" والمجموعات والعناصر الإرهابية من البلدان العربية وروسيا ذاتها والجمهوريات الإسلامية "السوفياتية" السابقة وكافة ارجاء العالم.
انطلاق العدوان من الأراضي التركيية
وقبل اكثر من سنتين، وفيما السياح الروس يتنزهون على الشواطئ وفي الاسواق التركية، بدأ "الجيش "الاسلاموي" العالمي"، انطلاقا من الأراضي التركية بالذات، هجوما واسع النطاق ضد سوريا والعراق وليبيا، باعتبارها "الحلقة الأضعف" في مجمل المخطط الإرهابي التوسعي لـ"العثمانية الجديدة" بقيادة اردوغان. وتم اعلان "الخلافة الإسلامية" (العربية!) تمهيدا لاعلان نقلها الى "الاستانة الجديدة" وبني عثمان، كمقدمة شرطية لشن "الحرب العالمية الاسلاموية" ضد روسيا، بالأسلحة التقليدية (غير النووية) والعمليات الإرهابية الوحشية ضد المدنيين الروس، بدعم كامل، مكشوف ومستور، من الكتلة الغربية بزعامة اميركا.
التدخل الروسي يقلب المعادلة
وفي 30 أيلول 2015، وبناء على طلب السلطة الشرعية السورية، بدأ التدخل العسكري الجوي الروسي. وفي أيام معدودة تمكن الطيران والارصاد الجوية الروسية من الفضح التام لتركيا بوصفها منطلق العدوان الواسع على البلدان العربية والطرف الرئيسي في تفكيك وسرقة المعامل والمصانع من المنطقة الصناعية في حلب وارسالها الى تركيا، ونهب النفط من سوريا والعراق بواسطة داعش واخواتها، وقاعدة انطلاق المجموعات التي نفذت العمليات الإرهابية في البلدان الأوروبية ذاتها ومنها باريس وبروكسل. وادى التدخل العسكري الروسي الى كسر شوكة الهجوم التركي ـ الداعشي على سوريا خصوصا، وفسح المجال للجيش الوطني السوري لاستعادة زمام المبادرة في ساحات القتال.
الخوف يُفقد القيادة التركية توازنها
وهذا كله اثار حفيظة القيادة التركية الاردوغانية، وحلفاءها الغربيين، خصوصا وانها كانت تخشى ان يقوم الطيران الروسي بمطاردة جحافل الإرهابيين وقوافل الصهاريج المحملة بالنفط السوري والعراقي المنهوب، داخل الأراضي التركية بالذات.
تركيا تسقط الطائرة الروسية بضوء اخضر اميركي
وفي الموازنة والاختيار بين نهج الصداقة او العداء مع روسيا، اختارت القيادة التركية نهج المواجهة العدائية مع جارتها الكبرى. وفي 24 تشرين الثاني 2015، وبضوء اخضر من اميركا وجهت تركيا "إنذارا" ضمنيا عمليا الى روسيا، بأن قامت طائرة تركية من طراز F-16 أميركية الصنع باسقاط طائرة روسية من طراز سو ـ 24 فوق الأراضي السورية وقتل احد الطيارين اللذين هبطا بالمظلة سالمين واسر الاخر. واعتبر الرئيس الروسي ان هذه العملية هي "طعنة في الظهر".
روسيا تبدأ ردا تصعيديا لخلخلة وتفكيك تركيا
وعلى الفور أصدرت الحكومة الروسية الطلب الى جميع السياح الروس في تركيا، وكان عددهم بضعة ملايين بأن يغادروا فورا الأراضي التركية، وهو ما دفع غالبية السياح الأجانب من أوروبا الغربية أيضا لمغادرة مراكز السياحة التركية خوفا من تدهور الأوضاع بين روسيا وتركيا. وبنتيجة ذلك تلقى القطاع السياحي التركي لطمة لا عهد له بها.
تركيا مرشحة للزوال عاجلا ام آجلا
كما اصدر رئيس الوزراء دميتريي ميدفيدييف امرا الى الحكومة بدراسة جميع التدابير اللازمة لقطع جميع العلاقات الاقتصادية مع تركيا. وكان ذلك من ضمن خطة روسية متدرجة لافقار واضعاف تركيا وخلخلتها وتفكيكها كدولة، وهو ما سيحدث عاجلا ام آجلا كيفما جرت رياح الاحداث.
الداعشيون واسيادهم يهددون تركيا لمتابعة السير في المخطط القديم
وبعد عدة شهور، وتحت تأثير القطيعة الاقتصادية الروسية مع تركيا، وكذلك ارتداد موجة العمليات الإرهابية الداعشية الى قلب تركيا بالذات من اجل اجبارها على متابعة السير في سياسة دعم "الجيش "الاسلاموي" العالمي" لداعش واخواتها، وتحديدا في أواخر شهر حزيران الماضي، ارسل رجب طيب اردوغان الى الرئيس بوتين رسالة اعتذار عن اسقاط الطائرة الروسية وقتل الطيار الروسي الأسير.
روسيا ترد على المناورة بمناورة
وعلى الأثر بدأ الكرملين يتخذ قرارات لاعادة تحسين العلاقات مع تركيا. حتى ان رئيس شركة "غازبروم" العملاقة المعنية بمد أنبوب الغاز "السيل التركي" الى تركيا صرح بأن الشركة هي في صدد إعادة دراسة تنفيذ المشروع.
والسؤال الجوهري الان الذي يطرحه جميع المراقبين المحايدين:
ـ هل يمكن اعادة العلاقات الروسية ـ التركية الى وضع طبيعي للعلاقات بين بلدين جارين، من ضمن العقيدة الجيوستراتيجية الاوراسية التي تؤمن بها القيادة الروسية؟
في رأي المستشرق الروسي الكسندر كنيازيف انه بالرغم من اي تظاهر بالرغبة في تحسين العلاقات فإن الخلافات الجوهرية بين تركيا وروسيا ستبقى قائمة.
فتركيا ستبقى تدعم المنظمات الإرهابية، لانه في الحساب الأخير فإن السياسة التركية ليست مستقلة وهي ترسم من الخارج، ولا تستطيع تركيا ان تخرج بارادتها عن الدور المرسوم لها، والعمليات الإرهابية التي تعرضت لها تركيا مؤخرا تدفعها، من جهة، لاعادة النظر في سياستها السابقة الداعمة للارهاب، ولكنها، من جهة ثانية، هي بمثابة تهديد لها بالالتزام الفعلي بتلك السياسة، بصرف النظر عن التكتيكات المظهرية والتمثيليات السياسية بالتقارب مع روسيا.
وبالرغم من رسالة الاعتذار التي أرسلها اردوغان الى الرئيس بوتين، فإن السلطة التركية لم تتخذ أي اجراء للحد من استخدام الأراضي التركية كمعسكر دولي للتجمع وقاعدة انطلاق رئيسية للمنظمات الإرهابية، بدلا عن افغانستان. ولم يتبدل اي شيء جوهري في التناقض بين تحالف موسكو، دمشق، طهران وحزب الله، من جهة، وتحالف انقرة، الدوحة، الرياض، واشنطن والاتحاد الأوروبي، من جهة أخرى.
وبالرغم من رسالة الاعتذار المتأخرة لا تزال تركيا تواصل دعم المنظمات الإرهابية "الاسلاموية" والحركات الانفصالية المعادية لروسيا وللروس، في روسيا وفي الجمهوريات "السوفياتية" السابقة.
العلاقات التركية ـ الروسية في مهب التقلبات والمفاجآت
ومما لا شك فيه انه يوجد في تركيا تيار قوي يؤيد التقارب مع روسيا لا سيما على المستوى الاقتصادي، كما يواجه نظام اردوغان معارضة شديدة، متعددة التوجهات والانتماءات، دينيا واتنيا وقوميا وسياسيا، في داخل وخارج تركيا.
وهذا كله سوف يحتم ان تكون العلاقات التركية ـ الروسية عرضة للتقلبات والمفاجآت. وسوف تضطر روسيا للتعامل مع تركيا بأكثر من وجه، تبعا لكل حالة وظرف.
وهناك عامل أساسي ينبغي ان لا يغيب عن البال، وهو ان عامل الثقة بين البلدين قد انتفى نهائيا؛ هذا على افتراض انه كان موجودا أصلا!
https://telegram.me/buratha