لن ندخل في الجدل القانوني المشتعل حاليا بين المؤيدين لهذا الحكم، وهم الأغلبية، والمعارضين له، وهم الأقلية، فكل معسكر يملك وجهة نظر، والوثائق التي تؤيد مرفقه، وتعارض مواقف خصومه، وكل ما نستطيع قوله، ان الحكومتين السعودية والمصرية اوقعتا انفسهما في مأزق قانوني وسياسي، عندما اظهر "قصور نظر" استراتيجي غير مسبوق، يكشف عن سوء تقدير للموقف، بفتح هذا الملف الشائك، وفي مثل هذا التوقيت، ودون تقدير العواقب التي يمكن ان تترتب على هذا المنزلق الخطير.
لا نعرف ماذا يضير المملكة العربية السعودية التي تملك "عشرات الآلاف" من الجزر في البحر الأحمر والخليج (الفارسي) التي لا تعرف مكانها، لو انها اجلت بحث السيادة على هاتين الجزيرتين لبضع سنوات أخرى، حتى لو كانت تملك السيادة فعلا عليهما، فهما جزيرتان غير مأهولتين، وليس فيهما ذهب، وخضعتا للاحتلال الإسرائيلي لعشرات السنوات، وليس لهما أي قيمة سياحية، وهذا أيضا ينطبق بطريقة او بأخرى على مصر، وهذا لا يعني اننا نقلل من حقها بالمطالبة بالسيادة على الجزيرتين او أي جزر أخرى، ونحن مع التأجيل، ولسنا مع تأزيم العلاقات.
السعودية تخوض حاليا حرب استنزاف دموية في اليمن، وأخرى في سورية، وتعتبر "الخطر الإيراني" خطرا وجوديا يهددها، وتواجه إرهابا داخليا، وأزمة مالية واقتصادية دفعتها لاتخاذ إجراءات تقشف بدأت تخلق قلقا شعبيا، وانتقادات واسعة، فهل هذا هو الوقت المناسب للدخول في ازمة سياسية وقانونية مع الدولة العربية الأكبر التي لا غنى عنها وتأييدها في مواجهة هذه الاخطار مجتمعة او منفردة؟
الرئيس السيسي تنازل عن هذه الجزر لأنه مأزوم ماليا، ويريد المليارات السعودية لإنقاذ اقتصاد بلاده المنهار، وحكمه بالتالي، أي انه كان اسير الحاجة المالية، ولذلك تجاهل وجود شيء اسمه الشعب المصري، وقفز فوق حساسيته الخاصة جدا تجاه مسألة التنازل عن أي ارض مصرية، حتى لو كان لدولة "شقيقة" مثل السعودية، قدمت لخزينة بلاده قروض ومنح مالية تقترب من حاجز الخمسين مليار دولار.
الإنذار التي وجهته السلطات السعودية الى الرئيس المصري بفرض عقوبات صارمة ضده وحكومته اذا لم يحسم امره، ويعيد تسليم الجزيرتين للسيادة السعودية، وامهلته ثلاثة اسابيع مثلما تفيد بعض التقارير الإخبارية، جاء متسرعا، ولم يكن موفقا على الاطلاق، واتسم بالتصعيد في الوقت غير الملائم.
الضغوط التي مورست على السلطات المصرية وتمثلت في تشكيل تحالف خليجي بوقف أي دعم مالي لها طالما لم تمتثل للشروط السعودية، وايقاف المنحة النفطية التي تقدر بحوالي 700 الف طن شهريا، ربما تؤلب الشارع المصري ليس ضد السعودية فقط، وانما معظم الدولة الخليجية، وتدفع بالرئيس السيسي للارتماء في أحضان ايران ومعسكرها، الذي تقف السعودية ودول الخليج (الفارسي) في الخندق المقابل له في الحرب السياسية والعسكرية المباشرة، او بالنيابة المستعرة حاليا على اكثر من جبهة.
الحكومة المصرية اوفدت وزير نفطها طارق الملا الى العراق قبل أيام وعاد محملا بمليوني برميل نفط شهريا، ليس لتعويض المنحة النفطية السعودية فقط، وانما بشروط اكثر يسرا، علاوة على توقيع اتفاق بتكرير النفط العراق في مصاف مصرية لسد احتياجات بغداد من المشتقات الأساسية مثل البنزين والمازوت وخلافه.
هناك عدة سيناريوهات مرجحة بعد صدور هذا الحكم:
الأول: ان تحترم الحكومة المصرية قرار المحكمة الإدارية العليا، وتلغي الاتفاق، وتتمسك بسيادتها على الجزيرتين، وتتحمل العواقب المترتبة على ذلك.
الثاني: ان تعارض هذا الحكم وتطعن به، وتذهب الى مجلس النواب (البرلمان) لإقراره بإعتباره الجهة المخولة دستوريا من وجهة نظرها للتعاطي مع مثل هذه الاتفاقات والمعاهدات، وما يرجح هذا الخيار اصدار "ائتلاف دعم مصر"، الذي يشكل الأغلبية في البرلمان، بيانا قال فيه ان الحكم لن يغير حقيقة اختصاص البرلمان بنظر المعاهدات والاتفاقات الدولية.. ولن يفرط بهذا الحق".
الثالث: ان يستمر الرئيس السيسي في المماطلة ومحاولة كسب الوقت، والبحث عن وساطات خليجية لإصلاح العلاقة مع السعودية، او تخفيض ضغوطها وانذاراتها على الأقل.
الرابع: ان تتحلى الدولتان بالحكمة والعقل وتجمدان خلافاتهما حول الجزر في الوقت الراهن.
من الصعب علينا ترجيح أي سيناريو من بين تلك السيناريوهات الأربعة، ولكننا نفضل الأخير لمعرفتنا بالمخاطر التي يمكن ان تترتب على السيناريوهات الثلاثة الأخرى على الدولتين والمنطقة بأسرها.
الجزيرتان بالنسبة لنا ليست مصرية ولا سعودية، وانما عربية، ولا يضيرنا تحت أي سيادة تكونان طالما انها عربية، وما كنا نتمنى ان تصل الأمور بين البلدين الشقيقين الى هذا الوضع المؤسف، واذا تعذر التوصل الى تسوية مقبولة من الجانبين، ما المانع من الذهاب الى محكمة العدل الدولية وطرح الخلاف عليها، على غرار ما فعلت كل من قطر والبحرين، حول تنازع كل منهما على جزيرة حوار.
https://telegram.me/buratha