لم تكن إقالة مدير الاتصالات في البيت الأبيض أنتوني سكاراموتشي مسألة معزولة ومفردة في الإدارة الأميركية الجديدة، لكنها توحي بأزمة هيكلية في فريق الرئيس دونالد ترمب، يؤكدها توالي الاستقالات بين رجال البيت الأبيض وفضائحهم وارتباطاتهم "المريبة" التي يبرزها الإعلام الأميركي.
والاستقالات والإقالات في إدارة ترمب طالت عدة مؤسسات، منها البيت الأبيض ووزارة الخارجية وإدارة الأمن القومي، وأبرزها إقالة كبير موظفي البيت الأبيض راينس بريبوس، وتعيين وزير الأمن الداخلي جون كيلي قبل أيام.
وقبل ذلك استقال المتحدث باسم البيت الأبيض شون سبايسر من منصبه احتجاجا على تعيين سكاراموتشي نفسه، وفق ما أفادت به صحيفة نيويورك تايمز، وكان ترمب قد أقال قبل ذلك مدير مكتب التحقيقات الفدرالي جيمس كومي.
وأعلن مدير الاتصالات في البيت الأبيض مايك دوبكي هو الآخر استقالته من منصبه في مايو/أيار الماضي بعد مرور ثلاثة أشهر فقط على توليه منصبه، بالتزامن مع تحقيقات بشأن احتمال تواطؤ حملة ترمب الانتخابية مع روسيا.
وكانت استقالة مستشارالأمن القومي للرئيس ترمب مايكل فلين في فبراير/شباط الماضي، بعد أقل من شهر من تعيينه في منصبه على خلفية أزمة الاتصالات مع روسيا، إيذانا بتصدعات كبيرة داخل البيت البيض، حيث شغل الرجل المنصب لأقصر فترة في تاريخ الولايات المتحدة.
كما شهدت إدارة ترمب في بداية فترته الرئاسية استقالة عدد من كبار مسؤولي وزارة الخارجية الأميركية من وظائفهم، بعد أيام قليلة من تسلمه السلطة.
وإذا أضيف هذا الكم من الاستقالات والإقالات غير المسبوقة في تاريخ البيت الأبيض -وفي وقت قياسي، حيث لم يمر على وجود ترمب فيه أكثر من سبعة أشهر- إلى التحقيقات المستمرة التي طالت مسؤولين في إدارة ترمب، بينهم صهره جاريد كوشنر وابنه دونالد جونيور ومسؤولين آخرين بإدارته؛ فإن ذلك يشير إلى تركيبة غير سوية في مطبخ السياسة الأميركية والدولية الأول.
وتبدو شخصية ترمب "المتهورة" كما يصنفها الإعلام الأميركي، وانعدام خبرته وكفاءته في المجال السياسي، عامل طرد داخل البيت الأبيض الذي اعتاد كمؤسسة ضخمة أن يدار مطبخه الداخلي بالكثير من الانضباط والتكتم والحرفية حتى في أسوأ الظروف، لكن تحدي ترمب للتقاليد داخل تلك القلعة السياسية العريقة جعلت الأمور تخرج عن السيطرة.
ويشكو فريق ترمب -الذي لا يقف على قرار داخل البيت الأبيض- من تداخلات أسرية مرتبطة بالعمل، حيث يعمل صهره كوشنر رسميا مستشارا للرئيس، بينما يبدو نفوذ ابنته إيفانكا كبيرا في قلعة السياسة الأميركية في وظيفة غير مدفوعة الأجر، وقد "ملأت الدنيا وشغلت الناس" في زيارات ترمب الخارجية والتقت مسؤولين كبارا.
ويقول السياسي الجمهوري ستيف شميدت الذي عمل في البيت الأبيض في إدارة جورج دبليو بوش، إن "هناك فوضى تحيط بترمب" في إشارة إلى كبار الموظفين الذين تم اختيارهم في البيت الأبيض والحكومة.
من جهتها، تقول صحيفة وول ستريت جورنال إن "ترمب كون فريقا يتحدى التقاليد، فأغلب أعضائه المهمين يختلفون مع بعضهم بعضا، ومع الرئيس المنتخب نفسه أحيانا".
ويفتح الرئيس ترمب معارك وصراعات مع الجميع، حيث تطال تغريداته -التي لا تنقطع- خصومه وأصدقاءه وطاقمه ورجال الإعلام والصحفيين الذين يترصدون بدورهم طرائفه وزلاته الكثيرة وإخفاقاته، وهو ما أظهره في صورة الرئيس المهزوز الذي لا يصلح لرئاسة الولايات المتحدة، في المضمر والمعلن.
ومع فقدان ترمب للكاريزما والخبرة السياسية، فإن الاستقالات والإقالات المتتالية تعبر عن فشله في إدارة فريقه داخل البيت الأبيض أو الحكومة، وتشير إلى أن اعتماد الولاء المترافق مع الإعجاب برجال المال الناجحين ( سكاراموتشي نموذجا) والجنرالات المتقاعدين، لم يكوّن لدى ترمب فريقا متجانسا وجعل قائمة الداخلين إلى البيت الأبيض والخارجين منه تطول.
وقد جاء ترمب -المحترف في عالم الأعمال والإعلام- إلى سدة البيت الأبيض مستفيدا من تخلخل في أركان الحزب الديمقراطي، ومن مساعدة روسية مزعومة ما زالت قيد التحقيق وتطيح تباعا بأركان بيته الأبيض، ومن خطاب أقرب إلى الشعبوية وجد فيه المواطن الأميركي -على "فجاجته"- تجديدا في الخطاب السياسي "المتكلس"، ومن وعود لم تجد معظمها طريقا للتحقيق وأضحت محل تجاذبات ومساومات مع الكونغرس.
وتبقى التحقيقات حول ارتباط إدارة ترمب بمساعدة روسية -والتي يخضع لها عدد من أركان حكمه- المطب الأكبر للسياسة الداخلية والخارجية للرئيس، الذي يخضع لضغوط كبيرة من الكونغرس بشقيه الديمقراطي والجمهوري ومن السلطة القضائية، مما أفقده الكثير من توازنه وجعل قراراته الداخلية والخارجية مجرد استعراضات وهروب إلى الأمام.
والملاحظ أن كل وعود ترمب الانتخابية قد طاشت في خضم أزمته العميقة، فالحظر على دخول المسلمين لم يطبق بالشكل الذي اقترحه، وملايين الوظائف لم يتم توفيرها، وواشنطن ما زالت عضوا فاعلا في الناتو، وهيلاري كلينتون لم تتم محاكمتها، والاتفاق النووي مع إيران لم يمزق، والصين أضحت حليفا إستراتيجيا بعد أن صنفها عدوا، وكوريا الشمالية تحرج ترمب وجيشه بشكل مستمر.
ويلحظ المحللون السياسيون اختلافا وأحيانا تناقضا بين ترمب والبنتاغون والاستخبارات، وخصوصا وزارة الخارجية في مقاربة الكثير من الملفات، فعودة ترمب المظفرة من زيارته للسعودية بمئات المليارات لم تجد صدى في المؤسسات الأميركية، وانحيازه لدول الحصار في الأزمة الخليجية كانت محل انتقاد واسع حتى من وزير خارجيته ريكس تيلرسون الذي حامت أخبار أيضا حول إمكانية استقالته.
ولعل بيضة القبان في الصراع الداخلي القائم في الولايات المتحدة هو العلاقة مع روسيا، فترمب فشل في تحويل إعجابه بروسيا ورئيسها إلى انفتاح وتعاون، بفعل ضغوط الاستخبارات ووزارة الدفاع، بل إن العلاقات تدهورت إلى حد يأس معه بوتين من "عهد جديد" مع واشنطن، وطرد 755 دبلوماسيا أميركيا في رد متأخر على قرار اتخذه الرئيس السابق باراك أوباما قبل رحيله بشهر.
وجاء هذا الأمر بعد لقاء أول بين ترمب وبوتين في هامبورغ على هامش قمة العشرين، حاول ترمب أن يخرجه على أنه إنجاز كبير، لكن ردة فعل عنيفة من الكونغرس والجمهوريين أحبطت أي كلام عن الموضوع.
ولم يستطع ترمب بذلك تجاوز الخطوط الحمر في الموضوع الروسي الذي يلاحقه وأعضاء فريقه ككابوس ثقيل، ليضاف إلى إخفاقات كثيرة في السياسة الخارجية والداخلية يتصيدها الإعلام الأميركي باستمرار.
والمحصلة أن شعبية الرئيس ترمب في تقهقر مستمر في أوساط النخبة والعامة، مسنود بعدم رضا متصاعد عن سياساته وتصرفاته أيضا، بما يبقي الطروح القديمة قائمة بشأن استقالته هو أيضا أسوة بعدد من أركان حكمه، فيما تتداول وسائل إعلام معارضة له إمكانية خلعه أو بقائه بالكاد حتى انتخابات 2020.
https://telegram.me/buratha